حتى في ورقة نعيه التي كتبها بنفسه، حرص على ايراد لقبه الأحب إليه (أبو خالد)، خلافاً لكثيرين ممن هم في مثل مكانته العلمية والاجتماعية والوظيفية. لم يكن الأمر اعتزازاً بالأبن الأول فحسب، وإنما تعبيرٌ عن انتماء فكري وطني وقومي بقي أميناً له منذ مطلع شبابه وحتى آخر أيامه.
مع مطالع أربعينيات القرن الماضي تفتحت عينا محمد فهد الدهان على الحياة في واحدة من حارات دمشق القديمة، ومع مطلع شبابه كان على موعد مع الأحداث القومية الكبرى التي صاغت توجهه الفكري من صعود الزعيم جمال عبد الناصر (ابو خالد)، واسترداد قناة السويس، والتصدي الباسل للعدوان البريطاني – الفرنسي – الصهيوني، الذي أوصل الشعور القومي العربي إلى أقصى مداه حين قدّم ابن سورية جول جمال روحه دفاعاً عن مصر، و فجًر السوريون أنابيب النفط المارة في بلادهم ليحرموا دول العدوان منه، وامتنع العمال في كل الموانئ العربية عن تفريغ السفن البريطانية والفرنسية. وحين وقفت مصر بدورها إلى جانب سورية في وجه المؤامرات الاستعمارية التي حيكت ضدها.
لم يكن الحال مع أبي خالد فورة عاطفية، وإنما قناعة عميقة واعية بالمشروع القومي (بجانبيه التحرري والتنموي) لا يهزها انكسار الأحلام الكبرى، ولا العدوان الصهيوني في صيف عام 1967، ولا حتى ما تعرض له شخصياً من أذى. ولأنه قومي بعمق وصدق، ظل طوال حياته وطنياً بعمق وصدق، فما أن تخرّج من قسم الجيولوجيا بجامعة دمشق حتى اتجه وشريكة حياته (ميادة) الى السويداء كي يعملا في مدارسها، ويتركا هناك أجمل الانطباعات ويعودان بأدفأ الذكريات، وبعد وقت قصير تقدما للعمل في مشروع سد الفرات، ليكونا من البناة الأوائل في هذا المشروع الوطني الكبير، ضمن مئات الجامعيين السوريين الذين أوجدوا في مدينه (الطبقة) شبه النائية عالماً جديداً من تقاليد العمل والحياة الاجتماعية الثرية، منذ توقيع اتفاقية التعاون الفني بين الحكومتين السورية و السوفييتية عام 1966 حيث تم إحداث المؤسسة العامة لسد الفرات، وأوكل إليها تنفيذ السد بالتعاون مع معهد هيدروبروجكت السوفييتي.
في منتصف السبعينات أتيحت، وقريب لي، فرصة زيارته في الطبقة، كان القريب اللبناني المقيم في كندا يحمل شهادة عليا باختصاص الهندسة المائية، ورغب أن يضع خبراته في مشروع ببلده (على حد تعبيره)، فاقترح عليه ابو خالد أن يزور مواقع العمل ويتعرف على إدارات الشركات العاملة بالمشروع، وكم دهشنا حين استيقظنا باكراً صباح اليوم التالي وعلمنا أنه ذهب للعمل منذ وقت طويل. لحقنا به ثم رافقناه وهو يتجول بين مواقع العمل المتباعدة، متابعاً تحت الشمس الحادة احتياجات كل منها بحرص شديد. فيما نحن نتفيأ بالسيارة، ونستمع إلى زميل له يحدثنا عن الجهد الكبير الذي يبذله أبو خالد على امتداد ساعات طويلة تتخطى الدوام الرسمي، ثم يردف بشيء من الانتقاد الخفي الذي لا يتضح من المقصود به تماماً:
(لكن في نهاية الشهر يقف هو والمهندس المهمل أمام المحاسب ذاته ليقبضا الراتب ذاته).
شككت أن مثل هذا الحديث المُحبِط قد قاله (الزميل) على مسمع أبي خالد، لكني كنت متأكداً أن هذا لو حدث ما كان ليغير من سلوكه شيئاً، فالعمل بالنسبة له مسألة التزام، والإخلاص فيه مسألة شرف، وفوق هذا وذاك لم يكن مشروع الفرات بالنسبة له وظيفة يعيش منها، وإنما قضية يعمل لأجلها، ولا أدل على ذلك من المقالة التي كتبها عنه بعد مغادرته له بسنوات كثيرة. مستحضراً في الأيام القاسية لصيف 2016 ذكرى (أيام الفرح المضيئة)، وتحت عنوان (من أوراق أحد بناة السد في ذكرى تحويل النهر)، قدّم مقالته بالقول:
(ثلاثة وأربعون عاماً مضت ومازالت الذاكرة متوهجة بفرح الإنجاز التاريخي لبناة سد الفرات، والذي تمثل بتحويل مجرى نهر الفرات – الذي تكّون منذ نشأته وخلال ملايين السنين – إلى مجراه الجديد عبر فتحات المحطة الكهرمائية وذلك في الخامس من تموز عام 1973، ليتكرس عيداً وتاريخا شامخاً في انصياع النهر لإرادة الإنسان السوري، لما فيه مصلحة وبناء مستقبل الوطن وأبنائه جميعاً، وليكون عيداً وطنياً للمهندس السوري، ممثلاً لنجاح إرادته وإمكاناته وقدراته الإبداعية..».
لم يكن عمق الانتماء لجوهر المشروع القومي التحرري التنموي الإنساني، والوطنية الصافية، والإخلاص للمبادئ والعمل. إلا بعض طيفٍ كبيرٍ من الخصال التي لازمت اسمه منها: النبل الذي لا حدود لإنسانيته، والشهامة المتحدة بالقيم الأخلاقية السامية الصارمة، والجدية التي تجاور الحزم وتلامس الصلابة دون أن تضحي باللباقة والتهذيب والحس الفكاهي اللطيف الذكي. والموهبة التنظيمية والقيادية، والحكمة التي صاغتها خبرة الأيام والظمأ المعرفي، والحضور الاستثنائي المستند إلى ثقافة شاملة عميقة ومتجددة لم يتوقف عن إغنائها حتى الرمق الأخير.
في ثقافتنا أن اذكروا محاسن موتاكم، وما سبق بعض مما امتلك منها ابو خالد، وعرفها فيه كل من عرفه، وجميعهم، مهما اتفقوا معه أو اختلفوا، في أي مرحلة من المراحل، أو في أي موقع للعمل المهني أو الثقافي أو الرياضي أو الاجتماعي.. يوحدهم الحديث عن نزاهته ووطنيته وإخلاصه.
إضاءات- سعد القاسم