الملحق الثقافي:خالد عارف حاج عثمان:
تحتلُ الصورة الشّعرية في الأدب، مكانة هامة في سلّمِ ومدماك النصّ، سواء أكان قصيدة أم غيرها من الأجناس الأدبية، كما يُعتبر التخييل كعمليةٍ فكريّة وعقليّة وإبداعيّة، عملية معقّدة، تنطوي على كثير من العمليات الكتابيّة اللازمة لإنجاز خطابٍ، يعكس قائله فكراً، لغةً، عاطفةً، تصويراً، وموسيقا، وقبل ذلك محاكاة..
والتخييل أنواع، فمنه التخييل الحسّي والتجسيم الذي يتوجّه إلى الماديّ، يصوّره ويبرزه ويجعله خادماً أميناً للصورة الشعريّة، وهناك الصورة الذهنيّة التي يحدثها الشّعر في متلقّيه، وهي أشبه بالصورة المرئيّة كما يقول الناقد «محمد يوب»..
وقديماً، تمادى «حازم القرطاجني»، في إبراز دور التخييل في إنتاج الشعريّة إلى حدٍّ بعيد، مضيفاً بأن عمليّة تخيّل المعاني، لا تتوقف على التلقّي، لأن التخييل انفعالٌ ذهنيّ لا واعٍ، تستجيب له النفس لمقتضى الصور الفنيّة، ولعلّ «ابن سينا» يدلو بدلوه في هذه القضيّة قائلاً:
«ليست كل اللذيذات صادرة عن الحسّ، بل من التخييل بالذات، كذلك المحاكاة هي تقليدٌ أو تشبيه».
وفي حديثه عن المحاكاة والتخييل في الأدب، يقول أحد النقاد: «لقد فصل «القرطاجني» في أمر المحاكاة، ودرجة حصولها، تبعاً لأنواع المحسوسات التي تثير التخيّلات الذهنيّة، وذلك في قوله بأن المحاكاة تنقسم إلى قسمين: محاكاة الشيء نفسه، ومحاكاة الشيء في غيره.
بقي لنا أن نتبين، أحكام هذه وأحكام تلك، فمن الأشياء ما يدرك بالحسّ، ومنها ما ليس إدراكه بالحسّ، والذي يدركه الإنسان بالحسّ، ما تتخيّله نفسه، لأن التخييل تابع للحسّ، وكل ما أدركته بغير الحسّ، فإنما يرام تخييله، بما يكون دليلاً على حالِ هيئة الأحوال المطبقة به واللازمة له..
مع «القرطاجني» كلّ الحقّ في تحليله، وتقسيمه لنوعيّ التخييل، محاكاة الشيء كحال وواقع، ومحاكاة الشيء في السياق التخييليّ والابداعيّ، ويدخل في هذا المجاز اللغوي أيضاً..
كما ويدرك «القرطاجني» بأن التخييل عملية فكريّة، وإبداعية، ولابدّ للمبدع من أن يسلك ويتَّبع هذين القسمين، وصولاً إلى الصورة والخيال.
وللصورة المتخيّلة والبديع وظائف وقيم فنيّة، مثل إظهار المعنى بوضوحٍ، من خلال إعمال العقل في المتناقضات، لاسيما في التصريع والجناس والطباق والترادف، وتشكّل هذه مصدراً ثرّاً من مصادرِ الموسيقا الداخليّة..
للصورة المتخيّلة وظائف عديدة من أهمها، الشرح والتوضيح والمبالغة والتحسين أو التقبيح والمحاكاة، وإضفاء نفسيّة المبدع.
لنقرأ الشاعر «نزار قباني» حين يرثي ابنه قائلاً: «ورأسكَ في راحتي وردة دمشقيّة».
وفي قصيدةٍ أخرى:»وضعي طرحةَ العروسِ لأجلي/ إن مهر المناضلات ثمين».
ويذهب «ابن نباته» المصري، حين لاح له أحبابه، إلى ما ذهب إليه القباني :
«أحنُّ لوجهٍ تهتُ فيه صبابة/ فلله صب ضلَّ إذ لاحَ بدره».
وهذه الحال نراها جليّة لدى «الصمة القشيري»: «كأنّا خُلقنا للنوى وكأنّما/ حرامٌ على الأيامِ أن نتجمّعا».
فالصورة الشعريّة المتخيّلة، تتأثّر بمعاناة الشاعر النفسيّة وأمانيه، يقول الشاعر «نديم محمد»:
«ونسجتُ الأصيل ثوباً ونقشـتُ/ من حوافيهِ بالندى والملاب».
كما ويقول شاعر آخر في الحب: «رغم العواذل إنني في غمرةٍ/ صدقوا ولكن غمرتي لا تنحني».
هكذا تُبدي الشعريّة الحبّ في التراث العربي، ولنمرّ على هذا البيت الشعريّ، فنرى العمليّة التخيليّة فيه:
«خيالٌ جلا لي في الشّام إذ انطوى/ تنازعّ قلبي عبرة ووجوم».
اجتمعت هنا العمليّة التخيليّة، بقوّتها لدى الشاعر، مع الحالة النفسيّة، وساهمتا في إنجاز الشعريّة بأبهى صورها. .
نخلص إلى أن المحاكاة، والعملية التخييليّة التصويريّة، عمليتان عقليتّان ومهارتان إبداعيتان ضروريتان ولازمتان، لإنجازِ النصِّ الشعريّ، والشعريّة في أوضح صورها..
التاريخ: الثلاثاء15-6-2021
رقم العدد :1050