الفرحُ الحقيقيّ.. ألمُ الإبداعِ العظيم

الملحق الثقافي:وجيه حسن:

بجلسةِ رحابةٍ ومُفاسَحَة، قال له:
– يا صديقي، يا ابن وطني، هذا الزّمن – من أسفٍ – زمن الرّياء المفرط، والزّيف المُستشري، و»الفوضى الخلّاقة» المُهْلِكَة..
ردّ عليه:
– بل قلْ بقوّة: إنّه زمن السقوط المُريع، وشراء الضمائر الرّخيصة، واحتساء الضّغائن، إنه زمنُ القتلِ المجانيّ المُدان والمرفوض جملة وتفصيلاً، وقولاً واحداً!.. نعم إنه في بعض محطاته زمنٌ للنبتاتِ الطفيليّة، أو كما تسمّيهم الكاتبة «أحلام مستغانمي» بروايتها الشّهيرة «ذاكرة الجسد»: «النبتات السيّئة».
تقول «مستغانمي»: «تلك النّبتة التي تنمو من اللاشيء، بأيّ حوض، أو أيّة تربة، وإذا بها تمدّ جذورها فجأة، تُضاعِف أوراقها وفروعها حتى تطغى وحدها ذات يوم على كلّ التربة!!».
تأسيساً على ما ورَد: لَكَم يحزّ في القلب ويجرح عصب الرّوح، أنْ تمتلئ ساحتنا العربية اليوم، بكمٍّ وافرٍ من المهرّجين المرِيعين، الذين يلطّخون وجوههم وكتاباتهم ومواقفهم وأصواتهم وسلوكياتهم اليوميّة بمساحيق الألم، وألوان المعاناة المزيّفة الرّخيصة، ويطلعون علينا بهذا السّيل الجارف من الكلام المُنمّق الفارغ، و»الرّوح البلاستيكيّة» البلهاء، والكذب الرّخيص «غير الأبيض» على شخوصهم أوّلاً، وعلى الآخرين ثانياً وثالثاً وأخيراً .. وعلى الحياة أوّلاً وأوّلاً وأوّلاً متجاهلين إجابة «بابلو نيرودا» لسائليه: «لماذا لا تكتبُ عن الزّهر»؟ أجابهم بوجعٍ دفين: «ولكنْ انظروا الدّم على شوارع مدينتي»!. إنّهم يهيلون التراب على وجه المرأة، إذ كلّ شيء في حياتهم يعطونه شكل امرأة: الأرض، الخبز، الفقر، الشّهيد، الطفل، الوطن، المطر، الشّجر… ويدبّجون بأقلامهم المُنحدِرة معلّقات ومطوّلات بفنّ الغزل التّافه، ناشدين لذّة رخيصة لا تاريخ لها ولا عنوان، وهم يطمحون إلى شهرةٍ عالية، ومجدٍ مُؤثّل، دونهما إبر المورفين، لا إبر النّحل! فهؤلاء وأشباههم منْ «أرباب» الأقلام المزيّفة، و»منتجي» المسلسلات الهابطة، ومطربي الأغنيات المَمجوجة، و»أرباب» النفوس الإجراميّة، إنما هم نبتات سيّئة مُنبتّة تنمو من اللاشيء في ظلامٍ دامسٍ، خلف وجه الشّيطان، بل وفي غفلة عن أعين الوطنيين الصادقين الشّرفاء!.
بناءً عليه.. فإنّ أيّ إبداع عظيم يقبع وراءه ألمٌ عظيم، وهمٌّ ثقيل، ورؤى نورانيّة معمّقة؛ هذا الكلام لا يعني أنّ كلّ المتألّمين بالحياة هم أناسٌ مبدعون، أو أناس عظماء، أو «أنّ شجرة الألم دائماً تُؤتِي أُكلَها الشهيّ، وتفرش الأفياء الوارفة، والظلال النديّة الخَضِلة»، على حدّ تعبير أحدهم…
يقول الفيلسوف الألماني «آرثر شوبنهاور» – صاحب مذهب التّشاؤم-: «إنّ للألمِ تاريخاً، أمّا اللذّة، فلا تاريخ لها»… فلو جُرّدَت هذه المقولة منْ سياقها الفلسفيّ التّشاؤمي، وقُمنا بتوظيفها في سياقِ هذا الحديث وتضاعِيفِه، لوجدنا «أنّ كلّ إبداع عظيم يكمن وراءه ألمٌ عظيمٌ»، كما أوردنا آنفاً! ولذلك فإنّ ألم الإبداع العظيم، هو ـ بكلّ توكيد ـ من أكثر الآلام حِدّة وتقويةً لشهيّة الفرح الحقيقي عند الإنسان، وخاصّة شريحة المبدعين، أهل التوهّج والإيناع والتّأثير! هذا الفرح، الذي لولاه لما صمد «ناظم حكمت» ـ الشاعر التركي المعروف ـ هذا الصمود الأسطوري في سجنه ومنفاه، وأتْحفَنا بأجمل قصائده، ذات النَّفَس الكفاحي العنيد، والنكهة الإنسانيّة ذات الطّزاجة المندّاة، واللذاذة المُسْتحَبَّة، حتى إننا نستطيع القول من دون تهيّب: إنّ قصائده رغم عدائها الشديد للقتلة المجرمين، ومصّاصي حقوق الأبرياء، قد استطاعت أنْ تخلق بينه وبين سجّانه تعاطفاً إنسانيّاً من نوعٍ ما، ومساحة من الودّ العميق لا مثيل لهما في محطات التاريخ على وجه القطع!!.. ولولا هذا الفرح الحقيقيّ، لاستنفدَ الفنّ الأصيل كلّ طاقاته ومضامينه وموضوعاته، بمعركته غير المتكافئة مع الظلم بكلّ وجوهه البشعة المُعَرْبِدة، ومع أعداء «الاستقلال والحريّة والسّيادة» والطفولة والحياة والإنسان في كلّ ساحة، بل في كلّ عصر ومصر!!.. ولولا الفرح الحقيقي الناتج عن ألم الإبداع العظيم، لمَا طافَ الحلّاج «الحسين بن منصور أبو مغيث» الفيلسوف ـ داعياً الناس إلى الزّهد فاتّهموه بالزّندقة، فحُكِمَ عليه، وسُجِن ثماني سنوات، ثم عُذّب وصُلِب! ولولا هذا الفـرح الحقيقي النّابع من ألم الإبداع العظيم، لما وقف شاعرٌ فيتناميّ مُنِحَت له (جائزة لوتس) مناصفة مع الشاعر الفلسطيني المرحوم «محمود درويش»، ليقول للذين كرّموه بكلّ فخرٍ واعتداد: «تكريمُكُم اليوم لي، هو تكريمٌ حقيقيّ لشعبي ولنضاله العادل المشروع ضدّ الإمبرياليّة الحاقدة، وأصحاب العقول والقلوب المريضة.. إذنْ، أتنازل عنْ هذه الجائزة لأبناء وطني الذين يقفون بعظمة وتأييد، وراء كلّ ما كتبتُه من شعر، وما حقّقته من مجد..»!
و»لوركا» شاعر إسبانيا الشّهيد، الذي يجري في عروقه دم عربيّ أصيل، كذلك لم يساوم على نغمة واحدة في قيثارته، ولم يَرَ فجرَ «نيويورك» الأسود غيرَ فجر فاحم السّواد، ولم يفاوض «محاكم التفتيش الإسبانيّة» إلا على طاولة دمه.. ولأنه كان كذلك، ولأنه صاحب ألم إبداعيّ عظيم، فقد استفاقت إسبانيا ذات صباح بائس، على فاجعة اغتيال هذا الشاعر الكبير، فعشّش الحزن في قلبها، وفرّخ الأسى في دمها.. انتحرت قبائلُ من الأشجار والعصافير والأحلام، احتجاجاً على ما اقترفتْه اليد الآسِنَة الملطخة بحقّ ودم وفكر وحياة شاعر الموسيقا والغجر والزّيتون والسّنابل والمطر… ثم ألمْ يرحل الشاعر اللبناني الكبير «خليل حاوي» منتحراً بطلقاتٍ ناريّة، أطلقها على قلمه وأوراقه وفلسفته وروحه وجسده بآن، احتجاجاً على اجتياح العدو الصهيوني للجنوب الصامد، الذي كان جنوبَه وحدَه، والذي رفض رفضاً باتّاً أنْ يتقاسم هواءه العليل مع أنفاس الصهاينة الأوْغاد، مصّاصي دماء الشّعوب!..
بهذا السّياق تقول «مستغانمي»: «.. كان لموتِ هذا الرّجل ألمٌ مميّزٌ فريد المرارة .. فعندما لا يجد شاعرٌ ثائرٌ شيئاً يحتجّ به سوى موته وخلاصه، ولا يجد ورقاً يكتب عليه سوى جسده، عندها يكون قد أطلقَ النّارَ علينا جميعاً!..
ثم ألم يكن الرّاحل «حاوي» مُولَعاً بالروائي الياباني العظيم «ميشيما»، الذي مات هو الآخر منتحراً أيضاً، ولكن بطريقة أخرى فجائعيّة؟!..
بيتُ القصيد.. إنّ ألمَ الإبداع العظيم بيتٌ لا يشبهُ بيوتاً أخرى..
وما وقع ويقع لسورية الأمّ اليوم، من آلامٍ وجراحاتٍ وتهجيرٍ وتدمير، على أيدي حفنةٍ ضالّة ممّن باعوا حياتهم وحياة وطنهم وعقولهم للغربان وللأبالسة، لهو ممّا يفجّر إبداعات المبدعين الغيورين الشّرفاء، ليكتبوا عمّا قام به المجرمون القتلة ضدّ وطنهم وأناسِيِّهم.. وضدّ البشر والحجر والشّجر على حدٍّ سواء…

التاريخ: الثلاثاء15-6-2021

رقم العدد :1050

 

آخر الأخبار
الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار "أموال وسط الدخان".. وثائقي سوري يحصد الذهبية عالمياً الرئيس الشرع  وعقيلته يلتقيان بنساء سوريا ويشيد بدور المرأة جعجع يشيد بأداء الرئيس الشرع ويقارن:  أنجز ما لم ننجزه الكونغرس الأميركي يقرّ تعديلاً لإزالة سوريا من قائمة الدول "المارقة"   أبخازيا تتمسك بعلاقتها الدبلوماسية مع السلطة الجديدة في دمشق  إعادة  63 قاضياً منشقاً والعدل تؤكد: الأبواب لاتزال مفتوحة لعودة الجميع  84 حالة استقبلها قسم الإسعاف بمستشفى الجولان  نيوز ويك.. هل نقلت روسيا طائراتها النووية الاستراتيجية قرب ألاسكا؟       نهاية مأساة الركبان.. تفاعل واسع ورسائل  تعبّرعن بداية جديدة   تقدم دبلوماسي بملف الكيميائي.. ترحيب بريطاني ودعم دولي لتعاون دمشق لقاء "الشرع" مع عمة والده  بدرعا.. لحظة عفوية بلمسة إنسانية  باراك يبحث الملف السوري مع  ترامب وروبيو  مبعوث ترامب يرحب بفتوى منع الثأر في سوريا   إغلاق مخيم الركبان... نهاية مأساة إنسانية وبداية لمرحلة جديدة  أهالي درعا يستقبلون رئيس الجمهورية بالورود والترحيب السيد الرئيس أحمد الشرع يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك في قصر الشعب بدمشق بحضورٍ شعبيٍّ واسعٍ الرئيس الشرع يتبادل تهاني عيد الأضحى المبارك مع عدد من الأهالي والمسؤولين في قصر الشعب بدمشق 40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان