الملحق الثقافي:د. دريد عوده *
كان شهر أيار قد انقضى، وحطَّ الصيف رحاله في جبل لبنان.. نارُ الحرب الطائفيّة أتت على كلّ شيء؛ ليس فقط على البيوتِ ودور العبادة، على كلّ ما كان في طريقها وهي تمتدُّ من بلدةٍ إلى أخرى، بل على ما هو أكثر من بيتِ بشرٍ وإله: لقد أتت على هيكل الوطن برمّته، وعلى فكرةِ لبنان وطناً للألفة والمحبّة والحياة الواحدة، بين الأديان والطوائف.
لقد سقط لبنان صريع حرب أبنائه عليه، وفي أتون الحرب «المقدّسة» التي قادها الطرفان المتصارعان، كان لبنان الضحيّة – الذبيحة.
لكن ردّ المقاومة على تلك المؤامرة كان قويّاً وصاعقاً، فحين كانت الطوائف المتقاتلة تستبيح كلّ حرمات الله والوطن والإنسان، صعّد المقاومون من عملياتهم البطوليّة ضد الاحتلال، وكانت أكثر ضراوة وقساوة ونوعيّة من أيّ وقتٍ مضى. كانت رسالة المقاومين للاحتلال واضحة: عليك أن ترحل، مهما عثت في الأرضِ فساداً وخراباً.
مشهدان اختصرا وجهين مختلفين جذريّاً في النظرة إلى الوطن: الطوائف المتقاتلة تقوم بعملياتِ ترويعٍ وتهجير متبادل، لسكان القرى والبلدات والمدن التي كانت عبر مئات السنين نسيجاً اجتماعياً واحداً، وقد حيك قُطبة قطبة ولو بسنانيرِ النار أحياناً، وبالمقابل، المقاومة تكيل الضربات الموجعة للعدو، وتفرض عليه الجلاء..
كان جلاء الصورة ساطعاً: أطرافٌ تتقاتل على الوطن فتقتله، وأناسٌ هم المقاومون يقاتلون في سبيل الوطن ويُقتَلون.
«هم التهجير ونحن التحرير»، رعد المقاومُ «فادي» بصوته مخاطباً المقاومين:
«ثمّة لبنانان أيها الرفاق: لبنان الطوائف الذي لا يمكن أن يقوم من كبوته، ولبنان الوطن الذي سنقيمه نحن المقاومون الوطنيون من كبوته الطائفية».
كان «فادي» قد صمّم على قتلِ اليأس في نفوسِ مقاتليه، فراح يشرح لهم الرؤية السياسيّة للمقاومة التي يجب النضال من أجلها:
«القضية ليست فقط تحرير أرضٍ من نير الاحتلال، بل تحرير نفوسٍ من نير الطائفيّة التي هي سلاح الاحتلال.. لا يمكنك أن تكون في الطائفة وفي الوطن.. عليك أن تختار: إمّا الطائفة وإما الوطن، فمشروع الطوائف شيء، ومشروع الوطن شيءٌ آخر.
لا يمكنك أن تقول إنَّك طائفيّ لبنانيّ، أو لبنانيّ طائفيّ، لأنهما تعبيران نافيان لبعضهما بعضاً. فإمّا أن تكون طائفيّاً، وإما أن تكون لبنانيّاً؛ إمّا تنتمي إلى الوطن ويكون ولاؤك الأول والأخير له، وإما تنتمي إلى الطائفة ويكون ولاؤك الأول والأخير لها.. الطائفية والوطنية نقيضان، وعليك أن تختار.
إذا كنت طائفيّاً، فأنت حكماً خارج الوطن ومفهومه، لأن الوطن يعني المواطنيّة، وإذا كنت وطنيّاً فأنت حُكماً خارج الطائفة ومفهومها واصطفافاتها، لأن الطائفة هي الطائفيّة.
إمّا أن تكون هويتكَ وطنيّة قوميّة، وإما تكون طائفيّة مذهبيّة: هناك هويّة واحدة، وعليك أن تختار، فلا يمكن أن يكون لك اسمان في وقتٍ واحد..
وهكذا، لا يمكنك أن تكون في الطائفة وفي المقاومة: عليك أن تختار أيضاً.. الوطنيّة والطائفيّة نقيضان، وكذلك الطائفيّة والمقاومة، فالمقاومة هي الوطن، والوطن هو المقاومة، وكلّ ما عدا ذلك هو صراعُ الطوائف على الوطن.
انظروا إلى ما حولكم!. إلى حروبِ الطوائف!.. هذه هي مقاومات الطوائف! ضد بعضها بعضاً، لا ضد الاحتلال!.. بنادقها موجّهة إلى صدرِ اللبنانيّ، لا الإسرائيليّ!.. لماذا؟ لأن كلّ طائفةٍ تعتبر أن لبنان تحتله الطوائف الأخرى، ويجب تحريره منها!.. يا للعار»..!
أكمل المقاوم يقول، وكانت الأمّة كلّها في صوته:
«الوطن هو اجتماعٌ إنسانيّ حضاريّ خلّاق ومبدع، وهو اجتماعُ إرادات، وليس مجموع أعداد في بازار اقتسام الوطن، وتقاسمه بين زعماء الطوائف وأمراء السلطة والمال والحرب.
كتابُ الوطن منارة حضرٍ وحضارة، وكتب الطوائف مغارة وحوش، وكهوف قرون حجريّة».
تطلّع «فادي» في الأفق البعيد، المشتعل بنيران حربِ الطوائف التي ألهبت السماء، وحرقت الأرض، وفتكت بطبيعة ذاك الجبل الجميل الذي شبّهه «لامارتين» بالجنة، ثم قال بمرارة:
«هذا ليس اقتتال أبناء السماء على الأرض، ولا اقتتال أبناء الأرض، لأن أبناء الأرض يحبونها فلا يقتتلوا عليها ويحرقوها.. إنه اقتتال لقطاء الأرض على الأرض باسم السماء؛ هؤلاء لا يعرفون، لا الله ولا السماء، ولا يعرفون الأرضَ أيضاً.. لا يعرفون إلا أطماعهم فقط، فمن يعرف الله، لا يهدم بيت عبادة، سواء أكان كنيسة أم جامعاً أم خلوة، ومن يعرف السماء، لا يقتل على الهوية، ومن يعرف روح الأرض، لا يحرق الوطن ويهدم الحجر ويقتل البشر.
نحن المقاومون أبناء السماء والأرض الحقيقيون، أمّا هؤلاء، فهم تجّار الهيكل بين الأرض والسماء؛ المرابون، فرّيسيو الأديان وكتبَتها وعشّاروها».
توقّف، ثمّ صدح بصوته، وكانت روح الأرض والسماء في نبضِ قلبه الدافق وجذوة روحه المتمرّدة:
«لهم لبنانهم، ولنا لبناننا.. لهم لبنان جسدٌ مقسَّم مهشَّم نازف حتى الموت، ولنا لبنان الروح الواحد النابض بالحياة.. لهم لبنان الطوائف، ولنا لبنان الإنسان.. لهم لبنان الأصوليّات الدينيّة المتقاتلة، ولنا لبنان الدين الحقّ، دين الروح الذي لا يفرّق بين إنسانٍ وآخر، لأن الروح الإلهيّ واحد، وهو موجود في الكلّ، وكامنٌ في الكلّ، وهو إنسانيّتنا السامية، وهو الحب والحق والخير والجمال في نفوسنا الأمّارة بكلّ حبٍّ وحقٍّ وخيرٍ وجمال، فنتوق إلى هذه الأقانيم توقَنا إلى نفوسنا.
لهم لبنان الجهل والتخلف والظلام، ولنا لبنان النهضة والحضارة والنور.. لهم لبنان مساحة أرض يتناهشونها كالضباع الكاسرة، ولنا لبنان أرض الخير والبركة للجميع.. لهم لبنان البغضاء والقتل والدمار، ولنا لبنان الحبّ والحياة والجمال.. لهم لبنان مشروع حرب دائمة، ولنا لبنان وطن للكلّ.. لهم لبنان مجموع مستوطنات، ولنا لبنان الوطن.. لهم لبنان التعايش والعيش المشترك الكاذبين، ولنا لبنان الحياة الواحدة، وثمّة فرق شاسعٍ بين عيش مشترك يجمع نقيضين، وحياة واحدة لجماعة واحدة.. لهم لبنان القبائل والرعايا، ولنا لبنان الشعب الواحد.. لهم الوطن والإنسان في خدمة شرائعهم الطائفيّة المقيتة، ولنا الشرائع في خدمة الوطن والإنسان..».
كانت عينا القائد الوطنيّ المقاوم، تقدحان شرراً، وكان الإيمان بالوطن يفيض كالغيثِ من بين كلماته الراعدة.
شعر المقاومون في أعماق ذواتهم أن روحه قد نزلت في كلٍّ منهم، وبأن أرواحهم تتّحد بعروةٍ وثقى لا يفكها موتٌ أو تكسرها حياة، فأسلموا قلوبهم لنبض قلبه، وعقولهم لجذواتِ عقله:
«لا يمكن أن تكون في معسكر الوطن والمقاومة، وفي معسكرات الطوائف في آن واحد: عليك أن تختار، ونحن قومٌ اخترنا الوطن ومقاومته الوطنيّة التي تحرّر الوطن والإنسان معاً.
الأرض المحرَّرة من دون مواطن مُحرَّر، هي كأرضٍ صالحة تُلقي فيها بذوراً فاسدة.. الإنسان الطائفيّ، بذرة فاسدة لا تقدح ولو رميتها في أخصب تربة، لأنها قشورٌ يابسة بلا لباب، ولا تنبت ولا تزهر ولا تثمر ولو رويتها بالماء الزلال، لأن الدم العَكِر وحده يُطفئ ظمأها.
انظروا ماذا حلّ بهذه الأرض الطيّبة الخيّرة المعطاء!.. لقد حوّلها الطائفيون إلى أرضٍ قاحلة.. إلى يباسِ أرواح، وصحراء عقول، وأرض بغضاء، وهشيم للنار.. فالأرض تشبه أصحابها، على صورتهم ومثالهم تكون».
كانت العيون تتطلّع إليه، وكأنه في عالمٍ آخر، ما جعله يخاطبهم:
«أنا أعرف الإحباط الذي ينهشُ أفئدتكم بأنيابِ العدم، وهو أنكم تقاتلون من أجلٍ شعب يتقاتل ويتذابح.. أعرف المرارة في عيونكم، وعلى شفاهكم: هي عصارة اليأس من قلوبكم القاطرة دماءكم حبّاً بالوطن حتى الشهادة، اليأس من شعبٍ تحمونه بصدوركم، فيما هو نفسه يطعنكم في ظهوركم..
أبقوا بنادقكم موجَّهة إلى الأمام، ولو كانت النار تصيبنا من الخلف وتُردي منّا الجسد والروح.. العدو أمامنا يُردي الجسد، لكنه لا يستطيع أن ينال من أرواحنا.
نسقط بنار العدو، والبسمة على شفاهنا. لكننا نسقط بنارِ من هم منّا، ونحن منهم، ومرارة الروح على الشفاه، لكنني والحق أقول لكم: من يطعنكم من الخلف هو جبان رعديد، والأبطال لا يميتهم الجبناء الرعديدون، لأن الشجاع الذي يرديكم في صدروكم العارية، وفي قلوبكم، لا يستطيع أن ينال منكم، فكيف بالجبان الرعديد الذي يصوّب عليكم من الخلف؟..
أولئك الذين يصوّبون عليكم من الخلف لا يصيبونكم، ولا يُسقطونكم أبداً، لأنهم أموات بالروحِ وبالقلب، والأمواتُ لا ينالون أبداً من الأحياء»..
على أثر تلك الخطب التي راحت تنتشر في صفوف المقاومين، كان الإيمان يشتدُّ في قلوبهم، ويشحذ فيهم الهمم إصراراً على التحرير..
لقد صارت رؤية المقاومة واضحة لديهم، صافية كصفاء الشَّمس، نقيّة كنقاء الفجر، لا زغل فيها ولا لبس. وعلى صعوبة المهمات، وعظمة التضحيات، راحوا ينقضّون على الاحتلال، يضربون قواته ليل نهار، يحرقون آلياته ويقتلون جنوده في كلّ مكان. لقد تحوّل فيهم الإيمان إلى يدٍ من حديدٍ لا تُلوى، وعزيمة من صخرٍ لا تتزعزع، وقدرٍ لا يرتدّ ولا يتراجع، وإرادة لا تكلّ ولا تهون.
فشلت كلّ محاولات الاحتلال، لإيقافِ هجمات المقاومين الذين استبسلوا في وجهه، ففي حين كان الجيش الإسرائيليّ يصبّ الزيت على نار الحرب الطائفيّة المستعرة لتحويلها إلى جدارٍ من نارٍ في وجه المقاومين، كان هؤلاء يخترقون ذاك الحزام الناريّ، الذي لف الجبل، ليضربوا قوات الاحتلال ببطولة عزَّ نظيرها.
* مفكر لبناني يقيم في نيويورك
التاريخ: الثلاثاء15-6-2021
رقم العدد :1050