الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
ثمّة كتبٍ، تحملنا على بساط السندبادِ إلى آفاقٍ بعيدةٍ، كما تبحر بنا إلى أعماقٍ يصعب سبرها بسطورٍ قليلة، عبر مقالٍ أدبيّ أو صحفيّ. فأيّ اختزالٍ لا يفيها حقّها، ومحاولة الاختزال بحدِّ ذاتها، تستوجب جهداً مضنياً يوازي متعة قراءتها، ومدى أثرها في نفوسنا. ولعلّ الوصف الأمثل للكتاب الذي بين يديّ، هو أنّه جوهرةُ قَرنٍ برمّته، وذاكرةٌ تحمل ملامح ينبوعٍ تستقي منه الأجيال فكراً يغني ذائقتها، وينمّي الحسّ الإبداعيّ لديها. وإن كان قد مرّ على صدوره سبعة عشر عاماً، فقراءته والتّعمّق فيه حاجة ملحّة لأبنائنا الطّلبة، لأنّه يجتاز حاجز الزّمن ليغوص فيه.
إذ تأخذنا الأديبة المبدعة “كوليت الخوري” في رحلةٍ زمكانيّةٍ طويلة، تمتدّ قرناً من الزّمن، عبر كتابها الذي اختارت له عنواناً “في وداعِ القرن العشرين”، ويضمّ بين صفحاته مقالاتها الأسبوعيّة الصّادرة في الفترة الممتدّة بين آذار 1998 ونهاية 2000 للميلاد.
حين اخترت هذا الكتاب من مكتبتي المتواضعة، ليكون موضوع لقائي بطلبة الثّانويّة العامّة، عبر حلقةِ كتابٍ وجدتني أغوص فيه حتى ساعات الصّباح الأولى، وأنا أدوّن أهمّ محاوره على قصاصاتٍ لاصقة خضراء، لينتهي الأمر بكتابي، فيبدو كما لو كان واحة خضراء بهيّة، وأجد نفسي أحتفظ بالقصاصات عليه.. كانت غايتي بالدرجة الأولى، تعريف جيل الشّباب بصاحبةِ قلم نسائيّ متفرّد، وبالدرجة الثانية، التعرّف على تفاصيل قرنٍ حافلٍ بأجمل وأعظم المحطّات في تاريخ بلادي.. ولأنّني لا زلت أشعر بضرورة وجوده في كلّ مكتبةٍ، شعرت بأهمية أن أكتبُ عنه الآن، بكلّ شغفٍ وإعجاب.
ربّما تجد أديبتنا المبدعة في أكثر من محطّة، أنّها تعجز عن اختزال شخص أو ذكرى لقامةٍ كبيرةٍ في مقالةٍ أسبوعيّة، ولكنّها نجحت وبشكلٍ منقطع النّظير، في تسليط الضّوءِ على أحداثٍ وأحداث، رسمت ملامح قرنٍ حافل بما تنضح به تلك المقالات، من تفاصيل وأعلام وذكريات، تشكّل دمشق واسطة العقد فيها.
نتعرّف عبر الكتاب، على هواجسِ الوطن والسّياسة والحبّ والحرب، كما نقرأ عن أشخاصٍ تركوا بصمتهم في حياة الكاتبة، كمعلّمة اللّغة العربيّة التي سعت للقائها بعد زمنٍ لتقدّم لها “زهرة امتنان وتقدير وحنين” (ص20)، ولكنّ الزّمن لم يمهلها وقد غيّبها الموت، فتركتها لها بين طيّات مقالٍ تتحدّث فيه عنها في عيد المعلّم، مؤكّدةً كم هي حاضرة في ذاكرتها: “فأنا أراها كلّ يوم.. في كلّ ضمّة.. في كلّ فتحٍ.. وفي السّكون. أراها في حكايات “الوصل”.. وفي همزات “القطع” المتكاثرة.. وفي قصص “العطف” المفقود هذه الأيّام.. وفي مشاكل “التّمييز”.. أراها في “التّفضيل”.. وفي كلّ “خبر”.. وفي أيّ حال…”! (ص 19)..
وفي مقالٍ تحتفي فيه بالقائد الشّابّ “الدّكتور بشار الأسد” والإطلالة الحضاريّة عام 2000، تؤكّد أنّ “الدّعم الفعليّ للعهد، يكون بالعمل والإخلاص” (ص327) وفي كلماتها إيمانٌ كبير وثقة بأنّ “ابن سوريّة الشّابّ سيعيد للتّصحيح شبابه، ولسوريّة ألقها الصّافي من الشّوائب”. (ص328)
نقرأ أيضاً عن مناسباتٍ وطنيّة، وأحداث تاريخيّة، شكّلت نقطة علّام في تاريخ سوريّتنا الحبيبة، وعن قصصٍ وحكايا رسمت ذلك التّاريخ بحروفٍ من نور، كما نقرأ عن “كنز فنّيّ في بلدي” (ص 25)، كان ولا يزال يعرف باسم “معهد صلحي الوادي” الّذي استطاع “بإيمانه وجهوده ومثابرته أن يخلق من العدم عملاً ضخماً، وأن يقدّم لهذا البلد خدمةً كبيرة، تُسجَّل له بنغماتٍ من نور.. فله الشّكر” (ص 27).
تحملنا “الخوري” على أجنحة الكلمات، إلى بعضِ عوالم الحقوقيّ العتيد، والسّياسيّ المناضل الغنيّ عن التّعريف “فارس الخوري”، فتتنوّع مقالاتها عنه ويكون لنا معه أكثر من محطّة في الكتاب. إحداها تحمل عنوان: “فارس الخوري وقصص أدبيّة” (ص 232)، وفيها من الطّرافة الكثير.. ثمّة ذكريات أخرى تنبشها من بين أوراق “فارس الخوري” على حدّ تعبيرها، لتعرّفنا بـ “ليلى” الابنة الوحيدة لـ “يوسف العظمة” الذي تركها قبل انطلاقه إلى ميسلون، ليؤدّي مهمّته التّاريخيّة الخالدة، مخاطباً “ساطع الحصري” بعبارةٍ مؤثّرة، خاطب بمثلها الملك “فيصل”: “إني أترك ابنتي الوحيدة ليلى أمانة في أعناقكم” (ص352)، وتتساءل الكاتبة بكثيرٍ من المرارةِ والأسف، عن مصير ليلى التي لم يعرف عنها، سوى أخبار متقطّعة وتفتقر إلى التّفاصيل.
وتسرد لنا إحدى قصص “الخوري” السّياسيّة التي سخر في إحداها، من المندوب اليهوديّ في أواخر الأربعينيّات، وكان حينها مندوب سورية لهيئة الأمم المتّحدة، وليت المقام هنا يتّسع، لسرد القصّة الطريفة التي قصّها ببراعةٍ وإتقانٍ للّغة الإنكليزية، عن “حاييم اليهوديّ” و “جورج المسيحيّ” وانفجر على إثرها أعضاء المجلس بالضّحك، وتميّز المندوب اليهوديّ غيظاً.. المقال حمل عنوان “وقفة عربيّة وقصّة يهوديّة” (ص 380).
كما تعرّفنا على “ماري عجمي” كإحدى “أهمّ نساء القرن العشرين السّوريّات العربيّات” (ص 347) بتاريخها الحافل بالنّضال والإبداع وتعرض لمواقفها الوطنيّة وقلمها الجريء، وتأسف من جديدٍ لأنّ سطوراً قليلةً لا تتيح لها أن تحشر سيرة امرأةٍ متفرّدة، عاشت حياة أنموذجاً لكلّ سيّدة عربيّة بين عامي 1888 و1965 وكتب عنها “كبار رجالات بلادنا، مثل “فارس الخوري” و”الأخطل الصّغير” و”خليل مردم بك” وغيرهم كثيرون”. (ص349)، ولا يفوت الكاتبة أن تختم مقالها، بعتبٍ كبير على كلّ أشكال التّقصير بحقّ هذه الأديبة المناضلة العظيمة، ومن أهم بنود عتبها على المعنيّين، أنّهم لم يتيحوا لمن تسمّيهم بالجيلِ الصّاعد، فرصة القراءة عنها وعن كفاحها، عبر كتبهم المدرسيّة.
تستعرض الكاتبة في مقامٍ ومقالٍ آخر، الدّور الحضاريّ الرّائد لجوقة الفرح بقيادة الأب “الياس زحلاوي”، عبر تفاصيلِ الحفل الفنّيّ الذي كرّمت فيه الجوقة، الكبير “وديع الصّافي” الذي “يرتاح الوطن في طيّات صوته البديع”، لتختم مقالها بنبوءةٍ أثبتت صحّتها بعد مرور واحد وعشرين عاماً على نشره: “تبدو لي جوقة الفرح، أحلى رسالة حضاريّة من الممكن أن نبعث بها إلى أنحاء الأرض، والرّسول الرّاقي للمحبّة والعدل والسّلام” (ص 365).
ولفندق بلودان الكبير نصيبٌ من محبّة أديبتنا الكبيرة، من خلال مقالٍ يحمل اسمه، ويؤرّخ لمن ارتاده من ضيوفِ الوسط الأدبيّ والفنّيّ والسّياسيّ، ليكون كما أراد له “المرحوم “توفيق الحبوباتي” الذي ارتبط اسمه بهذا الفندق… قبلة أنظار العظماء من أبناء هذه الأمّة”. (ص337)، وتذكر حادثةً تاريخيّة، تنوّه إلى أن “حسني الزّعيم” افتتح فيه أول حفل فنّيّ ساهر، بعد الانقلاب الذي قاده عام 1949، كما تشير إلى أنّ “جامعة الدّول العربيّة، عقدت أوّل مؤتمر لها في هذا الفندق” (ص 336)، مؤكّدة أنّ الحادثة الأهمّ بالنّسبة لها، على الصّعيد الشّخصيّ، هي تكريم القائد الخالد “حافظ الأسد” لها، مع الأدباء والصّحفيين في ربوع هذا الفندق في منتصف السّبعينيّات.
ومن أهمّ المحطّات في هذا الكتاب، تأكيدها على أهمّيّة دور الإعلام في حسم الصّراعات، والتّحكّم بالسّياسات عبر “التحكّم بالدّعاية” وقلب دفّة الميزان في المعارك، وذلك عبر مقالها: “عرب وصهاينة: قوميّة ضدّ عنصريّة”.
يأخذنا الكتاب أيضاً، في نزهة المشتاق إلى ذكرياتها مع الشّاعر الكبير “محمد الفيتوري”، وبدايات الصّداقة مع الفنّان المبدع “غازي الخالدي” وكتابه الموسوعيّ، ونزقه الطّفوليّ المحبّب. كما نقرأ عن الشّاعر “حامد حسن” ووجع الغياب، وعبق الحضور الدّائم.
نقرأ أيضاً، مقالاً مؤثّراً بعنوان “الواجبات الاجتماعيّة ومهنة الكتابة” ترصد فيه شجون من يكتبون، وسط عالمٍ لا يقدّر حاجة المبدع لسويعاتِ الوقت القليلة، فتطلق صرختها في ختامِ المقال: “كيف أشرح لمن حولي وللذين يعتبون، أنّ الكتابة مهنة حقيقية وصعبة، وهي مهنتي أنا.. مهنتي أنا.. يا ناس” (ص290).
ربّما يحتاج هذا الكتاب، إلى أكثر من مقالٍ، بل إلى كتيّب للوقوفِ على ما يحفل به من دررِ الذّكريات، لكاتبةٍ تصف نفسها بأنّها صرخت بأصابعها فأصبحت أديبة.. ولا أبوح سرّاً إذ قلت، إنّني وجدت صعوبة كبيرة في اختزال جزء بسيط من محطّاته، لما فيه من غنى وتنوّع، ولما يشمله من جوانبِ الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة وحتّى الفنّيّة في القرن العشرين.
قراءة كتاب كهذا، ليست مجرّد ترفٍ، بل هي ضرورةٌ ملحّة، لأنّه شاهد على عصرٍ حافلٍ، وذكريات قرن لا تنسى. لعلّ جيل الشّباب يغرفُ من مّعينِه ثقافة لا تنضب.
التاريخ: الثلاثاء15-6-2021
رقم العدد :1050