الملحق الثقافي:وجيه حسن:
يبدو أنّني لستُ وحدي مَنْ يطبّق هذه المقولة العربيّة عمليّاً، منْ خلال علاقتي الوشِيجَة بالكتاب.. فثمّة أناسٌ آخرون أشدُّ حرصاً منّي على نفْي صفة “الحماقة” عن ذواتهم!..
لقد اعتدتُ في الأسابيع الأخيرة، أنْ أرى أحد الأدباء منْ الأصدقاء برفقةِ عدد منْ عمالقة الأدب العالمي.. حيناً مع “فوكنر”، وحيناً مع “ماركيز”، وحيناً آخَر مع “غوغول”، الذي خرجَ منْ “معطفه” معظم كتّاب القصة في العالم، لكنّي لم ألمِّح له برغبتي في استعارة أحد مقتنياته الثمينة، فلقد قرأت في عينيه الرماديتين، أنّ رغبتي هذه ستظلُّ حرثاً في البحر، أو ضرباً للهواء، لا طائلَ من إظهارها أبداً!..
أمّا الصّديق اليماني الكاتب “عبد الودود المطري”، المعروف بقلمه الظريف السّاخر، فقد وعدني منذ سنوات، بإهدائي رواية “الرّهينة”، للأديب اليماني المرحوم “زيد مطيع دمّاج”، وحتى هذه اللحظة، لا أزال أنتظر “رهينة” الدمّاج!.. أهو “مَرْبُوش” حقاً، كما يعبّر دائماً عنْ حالة الإغراق والتشتّت، التي تلازمه بصفةٍ مستديمة، بسبب نَهَمِ المطبعة، ومتاعب “صاحبة الجلالة”؟ أم إنّه قد استشفَّ بحدْسِه الصحافيّ، أنّني لا أقلُّ عنه حرصاً وتمسّكاً بدفع تُهمة “الحماقة” عنْ نفسي!..
الآن يحضرني موقف مماثل لأحد كتّاب الرواية السوريين، الذي يُعرَف في الأوساط الأدبية، بأنّ مكتبته تكتظّ بآخر ما تلفظه مطابع العالم العربيّ على الأقل، منْ كتبٍ ورواياتٍ ومجموعات قصصية ودراسات وأبحاث ونقد ودواوين في الشعر، إلخ… فبقدر ما هو مُولَع باقتناءِ الجديد من كتابات الإبداع والفكر والمعرفة، بقدر ما هو بالوقت عينه مهوُوسٌ بعشقِ الكتاب، وكَلِفٌ به، إلى الدّرجة التي يمكنك أنْ تتصوّر، أنك لا تستطيع أنْ تخرجَ بكتابٍ منْ داره إلّا على “جُثّته”، كمَا عبّر عنْ ذلك أحدُ رُفَقاء القلم، حينَ استعْصَتْ عليهِ عمليّة الاستعارة يوماً!.
إذاً.. لم تكنْ إحدى شخصيات قصصي الرئيسة تتعدّى عين الحقيقة، حينما قالت وهي تُبدي دهشتها منْ عالم الكتب المُبْهر: “إنّ أعظم إنجازٍ بشريٍّ هو الكتاب”! وقد يبدو غريباً ومثيراً للسّخرية والدّهشة، أنْ ترى علاقة بعض الناس بالكتاب تنتهي عقب مرور عيونهم خطفاً على أسطره وحروفه، وكأنّه بِنَظرِهم – عقب الفراغ منْ قراءته “فيما لو قرؤوه” – لا يتعدّى كونه علبة عصيرٍ فارغة، شُرِبَ ما بداخلها، فلم يعدْ لها مكانٌ سوى “سلّة المهملات”!
على حين أنّ مجرّد رائحة الكتب، تجتذب آخرين وتستقطبهم، ليظلوا منْ مرافقيها الدائمين الذين “يقضمون” كلماتها وأفكارها وثيماتها، بتلذّذٍ وانهماك بادِيَيْن!..
والآن ثمّة سؤالان يثوران هنا مُفادُهُما: “أكان العرب ضدّ انتشار الثقافة؟ أم إنّ نُدرة الكتاب في ذلك الزمن، وحرص أهل الثقافة على اقتنائه، هما السبب بتداول هذه المقولة وتطبيقها عمليّاً”؟..
هذا ما كان منْ أمْرِ العرب سابقاً، لكنْ ما بالُهم في هذا العصر الرّاهن، يقفون موقفاً سلبيّاً منْ انتشار الكتاب، وإيصاله إلى مَنْ يمتلك القدرة على القراءة والفَهم والاستيعاب؟ بل ربّما يعمل بعض مسؤولي الثقافة بعددٍ منْ بلداننا العربيّة، على تعويق انتشار الكتاب أكثر منْ تيسير تداوله بين الأناسِيِّ، وذلك بمعاملته كسلعةٍ تجارية، ناهيك عنْ مجافاة واستخفاف بعض وزارات الثقافة العربية بِنتاجاتِ وكتابات المبدعين، بحيث لا تدعمهم الدّعم اللازم، ولا تشجّعهم التّشجيع المطلوب، لنشر إبداعاتهم، وتسويقها، وتيسير حركتها!
قيل لي يوماً، وأنا في طريقي نحو “معرض الشارقة للكتاب”: “ينبغي أنْ يكون جَيْبُكَ عامراً بالدّراهم، وإلا رجعتَ خالي الوفاض، ولا سيّما أنّهم يعلمون أنّ عينيّ تزوغان عندما ترى أغلفة الكتب”!!.
السّؤال الذي يضغط أفئدتنا وعقولنا هنا هو: “ماذا تبقّى لنا في هذا العصر، إذا كنّا لا نستطيع أنْ نُشبِعَ نَهَمَنا وعطشَنَا منْ رَحِيق الكتب وياسمينها وغِنَاها”؟!..
حاشِية للأديبين اليمانيّ والسوريّ: لم أقصدْ سوى الدّعابة، ثمّ أليست هذه المقالة “استراحة” و”قيلولة” منْ شؤونِ الحياة وشُجونِها ومتاعبها؟..
التاريخ: الثلاثاء22-6-2021
رقم العدد :1051