الملحق الثقافي:سـهيل الذيب:
ما يلفتُ على غلاف رواية “الماء العكر” الذي صمّمه الفنان “وسام المصفى”، طغيان اللون الأزرق السماويّ بدرجاتٍ متفاوتة، ومن ثمَّ اللون الرمادي، ثم الأسود الداكن، وهكذا هي الحياة التي نعيشها، فلا أمل فيها ولا صفاء، وسط الأمواج الهائجة والمتتابعة، من الحقد والجهل والأنانيّة، بل والشرِّ والغدر.
“الماء العكر”.. رواية صادرة عن “اتحاد الكتاب العرب” لمبدعها الإنسان والروائيّ، “ضياء حبش”، وتقع في 265 صفحة من القطع الكبير، يبدؤها تقطيع غير تسلسليّ، للزمن وللأحداث.
كانون الأول 2008، هو التاريخ الذي بدأ فيه الحدث الروائيّ، حيث يخاطب البطل حبيبته، ولا تظهر طريقة الخطاب، إن كانت وجهاً لوجه، أم من خلال رسالة أم غير ذلك.. المهم أنه يودّعها بعد أن جهّزت له حقيبة السفر، لكنه يهرب من وداعها إلى وداع أمه، الذي يوجعه ويزيد نقمته على الصهاينة.
لاشكَّ أن طريقة وداع البطل لحبيبته وأمّه، توحي بأنه ذاهبٌ إلى الحرب، فحضن أمه كما يرى، يستدعي أحزان الوداع الأخير، وهذا الوداع يستدعي أيضاً، لوحة “العشاء الأخير” لـ “دافنشي”، الذي رسم فيها المسيح وتلاميذه، ما يدلُّ على أن هناك مؤامرة، يجهّزها بعض اليهود، للإيقاع بالسيّد المسيح.
“كلّما عشتُ هذا الموقف بين يديّ أمّي، تجيءُ إلى ذهني صورة الصهاينة!.. لم أكن أبحث عن الرابط بين الأمرين المتنافرين، لكنني فتحتُ عينيّ هذه المرّة، وأنا بين يديّ أمي -التي أعطتك ظهرها- فرأيتك ورأيت عذابك، هربت عنك إلى نفسي، متشاغلاً بتفسير الرابط بين حضن أمي، وصورة الصهاينة.
تبيّن لي أن حضن أمي يستدعي أحزان الوداع الأخير، وهذا يستدعي لوحة العشاء الأخير لـ “دافنشي”، التي رسم فيها المسيح وتلاميذه..”.
حين همَّ البطل بوداع ابنته، التي سنكتشف فيما بعد أنه سمّاها، على اسم شقيقة صديقه “جعفر” المقاوم في جنوب لبنان، والتي كانت تسهر ليل نهار في خدمتهم، وهي الطالبة الجامعية.. حين همَّ بوداعها، كان يرى التلفاز يعرض مشاهد دماءِ وأشلاء أطفال غزة، التي يصبُّ عليها الصهاينة نيرانهم أواخر 2008..
يشيحُ قليلاً عن شاشة التلفاز، مخاطباً زوجته “فاطمة”، التي كان قد تزوجها عام 2006 :
“فاطمة!.. هذه ليست المرّة الأولى التي أسافر فيها إلى الجنوب”..
هنا تتّضح الصورة تماماً، فبطل الرواية مقاومٌ في جنوب لبنان، وهو يستنفر استعداداً للذهاب إلى الحرب، فالحرب على غزة، هي تماماً كالحربِ على الجنوب، ويجب الاستعداد والتحضير لها.
في هذا الفصل يخبرنا البطل، أن “بتول” الصبيّة المقاومة والجنوبيّة، والتي فقدت أهلها جميعاً في تموز 2006، تزوجت ضمن ذلك الزواج الجماعيّ الذي أقيم للجميع، ومنهم بطلنا، وأيضاً “جعفر” الذي تزوج “مريم” أخت الشّاب المقاوم “جورج”..
يلخّص الراوي هنا، أحداث روايته على طريقة الخطف خلفاً، ليعود مفصّلاً الأحداث التي أوصلت أبطال روايته إلى هذه الحالة السعيدة، أيّ أن يتزوج كلّ منهم بحبيبته.
أما في القسم الثاني من الجزء الأول من الرواية، فنرى “فاطمة” البطلة تخاطب بطلنا، فنعرف أنها من المدينة المجاورة لنهر الفرات، وكانا قد التقيا مصادفة في الجامعة في بيروت، وخلال هذه المصادفة، نشأت بينهما قصّة حبّ صامتة، لا كلام فيها ولا لقاء، على الرغم من أن الشاب من الضفّة الأخرى للنهر، وهنا تخبرنا “فاطمة”، أن الأمريكان احتلوا العراق، وبأنها رأت من خلال التلفاز، أجساد جنود قتلى في مستنقعات جنوب العراق، غاص بعضها في الطين، وظهرت أجزاء بعضها فوق الماء العكر.
تقول فاطمة: “شتان بين معارك الجنوب العراقيّ، وبين معارك جنوب لبنان، هنا القتال بيننا وبين عدوٍّ لا نختلف فيه، أما في جنوب العراق، فالمتقاتلون من أمّة واحدة.
في روايته هذه، يشدّنا الأديب “ضياء حبش” منذ اللحظة الأولى، ولا سيّما في هذا التناغم الجميل والعادل بين بطليّ الرواية، فكلّ منهما يتكلّم في قسمٍ من أقسام الرواية التي بلغت أربعين قسماً، وفصلين غير متساويين، وغير ذلك..
نعم، لقد شدّنا “حبش” إلى قراءة ما يراد من “الماء العكر”.. الرواية التي وجدناها شبيهة بالمذكرات، ولو أعطاها هذا الاسم لما أخطأ.. المهم أنّنا كنّا، وفي كلّ حديث يتمّ بين شخصيتين من أشخاص الرواية، نتعرّف على أحداثٍ جرى أوّلها في جامعة بيروت، حيث اللقاء الأول الذي نشأت خلاله قصّة حبٍّ عذرية صامتة، بين البطلين.. القصّة التي تعرّفنا من خلالها، إلى مذهبيّهما المختلفين، ولقد أجاد الكاتب هنا في الربط ما بين الحبّ والسياسة، ولا سيّما في جنوب العراق، وجنوب لبنان، وغزة أيضاً، لذلك استنفر المتصيّدون في المياه العكرة، الذين يؤذي مصالحهم الشخصية هذا التقارب بين المذهبين، ولو على المستوى الفرديّ بين حبيبٍ وحبيبته.. استنفروا، وحاولوا بكلِّ الُسبل منع هذا الزواج، وكأنهم بذلك يريدونها قطيعة أبديّة، ليس بين العاشقين فحسب، وإنما بين المذهبين، وقد أجاد الكاتب في تصويرهم بأنهم جهلة عدوانيون، وصلت بهم عدوانيتهم حدّاً، جعلهم يحاولون قتل البطل واتهام صديقه المقاوم بمحاولة القتل، لاجتماع مجموعة من الأدلّة ضده، ولا سيّما أنه من المذهب المغاير، لكن سرعان ما بانت الحقيقة، وسُجن العابثون في المياه العكرة، وأفرج عنهم، بإسقاط التهمة من قِبل البطل نفسه وصاحبه، وهي إشارة إلى العفّة غير المقدرة، ونبل البطل وصاحبه.
خاتمة:
يمكن القول: لقد قدّم الكاتب “ضياء حبش” في “الماء العكر”، رواية من نسيجٍ خاصٍ، اجتمع فيها النبل والشهامة والعفّة والكرم والأخلاق الحميدة. هذه القيم التي افتقد حوله أكثرها، وكأنه أراد بذلك التذكير بأهميّتها، وضرورتها في حياة الأفراد والمجتمع، وبأسلوبٍ عذبٍ وسهلٍ، تخلّله في كثيرٍ من الأحيان، بعض المقاطع الشعريّة، وليته ما فعل ذلك، لأنني أعتقد أن الشّعر يقف سدّاً أمام انسيابيّة السرد، ما يوهن النصّ ويضعفه، وهو إن لم يضعف نصّ “حبش”، إلا أنه أخمد قليلاً من النار الموجودة لدى المتلقّي، الساعي للسباحة في بحر هذا النصّ الروائيّ.
لاشكّ أنه أمرٌ يحسب له، ذلك أن أسلوبه الشيّق والجاذب لمتابعة أحداث الرواية، جعلنا في تحفيزٍ مستمر لمعرفة الذي سيأتي، ولا سيّما أنّنا نهلنا الكثير من مياهه العذبة، في الطريق إلى قراءته الماتعة..
“الماء العكر” أيقونة إنسانيّة، وطنيّة، أخلاقيّة. شكراً لمبدعها “ضياء حبش”.
التاريخ: الثلاثاء22-6-2021
رقم العدد :1051