«طرقٌ بلا عشاق».. وسورية هي مقصدُ العشق

 

الملحق الثقافي:ألوان إبراهيم عبد الهادي:

عنوانٌ يتصيّدك فتقع في متاهةِ طرقٍ عديدة، كلّها أضاعها أهلها العاشقين.. تسارع إلى اقتناءِ الكتاب الذي يحمل العنوان، وتبحثُ فيه بشغفٍ عن إحدى هذه الطرق، ومن ثمّ تتساءل عن هذا العاشق التائه، المقبل والمدبر في آنٍ!!..
من هم هؤلاء العشاق؟!..
إنهم من تقمّص الشاعر “أحمد يوسف داود” خيباتهم، وهزائمهم، وخرائب دروبهم، ومن تربّص طرقهم المتلهّفة إلى ضمّهم، وتلاشي الروح بلظى الحرب التي جعلته يُرثي هذه الطرق بأسى، كما في قصيدة “أوراق الليل”:
/هي شبهُ غناءٍ له جثّة النهر/ طافحة بالهزائمِ أشلاؤنا/ والمغنّي غريب/.
إنها باقة من سبعةِ أوراق دامية: ورقة كالدليل، ورقة السواد، ورقة الهباء، ورقة التذكرة، ورقة الخراب، ورقة الأميرة، ورقة الصلصال.
يتساءل في “ورقة الصلصال”، عمّن مسح السرور من حياتنا، وقدّمنا هدية للخراب والدمار، وأفقدنا وارف الحب، وأورثنا الحزن القاتم:
/هذا الحدادُ إرثنا يا أيُّها الصلصال/ زنزانات آلام/ وعمر قارسٌ/ هذا خلقنا: عار …/ وضاعت آية العشّاق يا صلصال”..
بلغةٍ سهلة واضحة، وغزل شفيفٍ في مدٍّ وجزر، يحاول “داود” قطف زبده، ولكن هذا العشق محاطٌ بالخيباتِ والعري والهزائم، وما يغري العاشق بالعبور الخفيف الناعم..
ففي قصيدة “أقفل” عشقٌ مبحوحٌ بلا صوت، أوهنه الشوق والحنين حتى تاه عن دربه، والمحاولة أفقدت هذا الصوت لمعانه.. رغم ذلك، هي السبيل والمقصد مهما جارت عليه وآلمته، وسورية هي المقصد في العشق، وهي الجهاتُ والدروب جميعها، وهي العذابات والحنين والشوق والعتب والمعاتبة وخرائب هذا العشق: “لاتكن” أيها العاشق غير مؤتمن على حبك ووفائك للحبيبة، فهي قصيدتك تنشدُ “أميرة الياسمين”:
/ولها عرشُ مملكةٍ من قلوب/ وحين تُباركها بابتسامتها/ تتجلّى بلادٌ من العشق/ .. ثم يصير الذي لا يصير../.
الصور كثيرة، وبلغةٍ تناهت في العشقِ إلى حدّه الأقصى، وإذا ما تملّكته أبدعت العجائب فيه، وأدهشت البصائر بنصاعته.
أما في قصيدة “لا أريد انتظاركِ أكثر”، فقد أضنى العاشق شوقاً، غلبه فجعله يلتمس درباً ينام عليه، لا يثني قلبه ولا يقوده إلى العذاب.. وفي “بشرى” أنثى أبدعتها الألوهة منذ زمنٍ، وهي تغدقُ الخصوبة في كلّ الأرجاء، فيا سورية بلدُ الخصوبة والخلق الجديد، أنت اختصار الحبِّ في كلمة حبيبة.
صورة جميلة، والأجمل في “حال تحوّل”:
/كلّنا يشتاقُ أن يغفوَ في حُلْمٍ/ على شوكِ سريرِ الشوقِ/ كي لا يعبرُ الدنيا/ قتيلا../.
نعم، الكلّ يريد أن يعشق ولو في الحلم، حتى وإن كان هذا العشق شائكٌ جداً، بل ويرفض أن يغادر الحياة قبل أن يعانقه ببهجةٍ، فها هو في “حنين”، أمير العشق المجنون، المنهمك بالشوق، والذي يرى العروس روحه.. سوريّة، ومن بقادرٍ على ألا يعشقها، ويجنُّ شوقاً لعناقها؟!.
في قصيدة أخرى عنوانها “مراثي برج تخلة”، يرثي الشّاعر العشق الذي ترعرع منذ الطفولة، قائلاً: ضجرٌ مني …
/كتابُ الأرضِ في قلبي/ ولكني غريبٌ/ بين أناتِ الكلامْ!/ كلّما ضيَّعتُ حرفاً/ ضاعَ مني وطنُ الروحِ قليلاً …/ ورمى لي في تباريحِ شكاويه/ الحطام!”.
في هذه المرثية الطويلة، اختصر الشّاعر كتب الأرض، في حبه لقريته تخلة، وهو ما فعله “أدونيس”، عندما خصّص كتابه “مفرد في صيغة الجمع” لعشقه لقريته قصابين.
هما رائدان في شعر الحداثة، ولكلٍّ مدرسته الحداثويّة.. والشّعر رسالة الشاعر الإنسانيّة القصيّة والدامية، في اختراق هذا الواقع الأسود.. بين عاشقٍ ومعشوق لهذا المكان الماضي بالحبّ والخصوبة والحياة، مكانٌ من خلقٍ وإبداعٍ الشّاعر، وولادة مميزة لعرائسِ مروجه، والبرج مكان للقديسة “مار تقلا “لآلاف السنين قبل الميلاد، وكان قد هُدم في القرن الماضي ثمّ عُرّب “تخلة”.
يرثي الشاعر هنا، أوابد قريته التي تحوّت إلى حواكير وبيوت، وبرجها الأثري الذي طاله الخراب والهدم.. مرثيّة رغم أنها طويلة، إلا أنّك لا تشعر بطولها، بل وتتمنى أن لا تنتهي.. تقرصك ويؤلمك ما تركته من صدى يردّد في مقطعها الأخير:
/ما قد راحَ من ميراثِ هذي الأرض/ قد يأتي/.. لكن، عندما نُسقطُ عن تاريخنا/ كلَّ قناعْ!/..
مرثيّةٌ فيها من العبر والقصص والعشق الفريد، ما جعل “داود” يسعى للقبضِ على الجرح الذي أدمى معشوقته، مندهشاً من النفاق الذي أحيط بها.
أيضاً، وفي قصيدة “دعيني أقاربْ نبيذَكِ”، يبتهل إليها “اتركيني أشاركك خمرك ومشروبك المعتّق، فإني ظمئ وبي شوقٌ قديم إليه، وينتابني هلعٌ وقلقٌ من أن يسبقني إليه آخر.
إنه يشبّه عشقه لجمال بلده، بعشقِ المحبوبة وموارد ينابيعها التي تروي العليل، ولكنه يخشى أن يدل على مواقع وجودها في قلبه، خشية أن يسلبه الآخرون هذا الموقع.
ينتقل الشاعر إلى “بين نارين”.. كيف وقع بين نار حبّه ونار وداعه لزهرة هذا الحب، وكيف يموت هذا الحبّ، والأسئلة المحيرة لهذا الوداع؟..
يطبق على حبّه بالصمت والحنين، فلا شيء يُجدي أنين الشوق الذي ينبض في أشلائه، ويضيع فيها.
يشعر القصيدة تخاطبه: “أتعبت قلبك”.. أما زلتَ تحلم بدنيا الفرح وأنت مدمّى بالدموع، أم أنك جئت مثل غيرك، مغدور ومضطرب بهذا الدمِ الفاسد؟!.
يشعر أيضاً، وفي قصيدة “صباحاً أنا”، بأنه يدوخ في نصاعة الصبح المشرق بشمسه، ويبحث عن ذاته فلا يجدها، وهو ما فعله “ديوجين”، عندما حمل قنديله في وضح النهار، ومضى يبحث عن الإنسان، دون أن يجده.
لا يجدُ الإنسان وإنما يجدُ الأرض.. المعشوقة الأرض التي تكتنزه في عمقها، والتي تعلو في عشقه بـ “رائحة التراب” البكر، المنبعثة من روحه.. الرائحة التي كلّما انتشرت، نبتت وردة عذراء من لبّ هذا الخراب.
صورةٌ تدلّ على أن تراب الأرض، ومهما طالها الخراب والدمار، يبقى خالقاً للحياة والجمال والحب المنعش للروح.
في “أنتِ في قلبي” لا يأسره سوى صهيلُ العشق، أما المتبقّي فيتركه لمن ضلّ بجهله قداسة تراب وطنه.
في المجموعة العديد من العناوين والقصائد التي منها.. “أنتَ على مايرام!”. و الـ “نصائح بلا مقابل” و “لا تمشِ في وحل الكلام”..
/يدُ الكلامِ غريبةٌ إن لم تُقَبِّلْها /نجومُ الشوقِ/ أو تغزلْ رؤاها العاشِقاتُ..!”..
فيها أيضاً، وجيب قلبٍ يئنُّ من الأسى والدمار.. “قلب يئن من الخراب” يقرأ هواه فيها كخرافٍ تذهب للذبح وهي ضاحكة، ساعية حالمة بالمرعى.
وتلحظ الحب الكسير في “أبنصفِ قميص؟!”.
رماه جواه في الجبّ، وتُرك منسيّاً فيه ولم يقدّ قميصه ولم يقطعْنَ الأيدي وهو المتروك بحدِّ السكين.. هذا الإسقاط الواضح للظلم الذي وقع على بلده، من الأخوة الذين غدروها، وتعاونوا مع الاعداء عليها، يقول فيه:
/ما للقلبِ/ وقد أردينا الحبَّ/ صحاب/..
وفي “غزالة، حساب، طفولة، جسد الغزالة، غزالات أيامنا”، استعار الغزالة وجسدها ورقّتها ونعومتها وطراوتها، ليلُبس بصفاتها هذه، جسد المحبوبة وقدّها المياس.. هذا الاسقاط الغزلي الشفيف، لعشّاقٍ يتهافتون بعشقهم وداعة ورقّة ورشاقة، إلى محبوبة ترفل جمالاً وتأنقاً، وهم في الحقيقة مدّعون وبعيدون عن هواها وعبيرها، وهم تجّار حربٍ ودمارٍ وخراب، ويسعون إلى أمّة بائدةٍ فانية، بعد فوات الأوان.
يخاطبهم، لكم الخيبة، لقد تهتم عن الطريق أيها المدّعون حبّها، ويبحث عن وسيلةٍ لحماية مفاتنها التي جعلتها أشبه بالظباءِ الجميلة التي تسعى في سهوبها، طلباً للعبير والحياة الهانئة، مشبّها بلاده وأرضه بجسد الغزالة التي تُرمى بالرصاص من هؤلاء المدّعين حبها، فتنفرُ منهم كما في قوله:
“شيمُ الظباءِ نفورُها/ ممن يعدُّ لها رصاص الغدر!”..
ويشبه هذا الجسد بالأقمار المنيرة المشرقة، متسائلاً؟”: “بأيّ جلالِ نورٍ صاغَكَ اللهُ؟!../ فتبدّت الأقمارُ”؟.
تشبيهٌ بليغٌ سببهُ، شدّة جمالها وإشراقها، والإشراق بحدِّ ذاته يحرسها.
“غزالات أيامنا” قصيدة ناقدة للحالِ الذي نحن فيه، تبيّن حالنا في ظلِّ غرق الأرواحِ بالدمِ والهزائمِ والخرائب، وسعير فتاوى لحى الأشرار.. يقول:
/في ضواحي الكوابيس/ نحن نصيد غزالات أيامنا/ ونقول لمن يسألون عن الحالِ: إنّا بخيرٍ/ وإنّا سلالاتُ موتٍ نبيلٍ …”.
أخيراً أقول: ما عرّجتُ عليه هو انطباعاتٌ أغرتني بالكتابةِ الموجزة عنها، والشّاعر تربّع ذروة الشّعر ممتطياً صهوة جواده بعشقٍ قلّ نظيره، فتجد نفسك بين عاشقٍ ومعشوق تألّها في العشق، وحلّقا به، ولكنه العشق الذي يلتمس طرقاً ودروباً في وسط خرائبِ ودمار بلدِ الخصوبة، علّه ينبت وردة تشعّ بالحب والحياة.
ديوان “طرق بلا عشاق”، إصدار وزارة الثقافة – هيئة الكتاب، يضم ٣٢٠ صفحة من القصائد المتنوعة.

التاريخ: الثلاثاء22-6-2021

رقم العدد :1051

 

آخر الأخبار
زيارة ميدانية ودعم لاتحاد الشرطة الرياضي  سوق المدينة يعود إلى " ضهرة عواد " بحلب  "وجهتك الأكاديمية" في جامعة اللاذقية.. حضور طلابي لافت وفد سعودي في محافظة دمشق لبحث فرص الاستثمار بتخفيضات تصل إلى 50 بالمئة.. افتتاح معرض "العودة إلى المدارس " باللاذقية أردوغان: ملتزمون بدعم وحدة واستقرار سوريا  الذهب يواصل ارتفاعه محلياً وعالمياً والأونصة تسجل 42.550 مليون ليرة سوريا: مستعدون للتعاون مع "الطاقة الذرية" لمعالجة الملفات العالقة التأمين الصحي.. وعود على الورق ومعاناة على الأرض "تجارة ريف دمشق" تبحث مع شركة تركية توفير الأدوية البيطرية   قرار ينصف المكتتبين على مشاريع الإسكان مراقبون تموينيون جدد .. قريباً إلى الأسواق  جاليتنا في "ميشيغن" تبحث مع نائب أميركي الآثار الإنسانية للعقوبات  "الشيباني والصفدي وباراك" يعلِنون من دمشق خطة شاملة لإنهاء أزمة السويداء 4 آلاف طن  إنتاج القنيطرة من التين خطاب يناقش مع لجنة التحقيق بأحداث السويداء المعوقات والحلول هل تكون "المخدرات" ذريعة جديدة في صراع واشنطن وكراكاس ؟ لجنة لدراسة قطاع الأحذية والمنتجات الجلدية في حلب باحث اقتصادي: التجارة الخارجية  تضاعفت مرة ونصف منذ ثمانية أشهر نقلة من  الاقتصاد الواقعي إلى الالكتروني