الملحق الثقافي:حوار: إلهام سلطان:
تشتعل الحروف وتتراقص الألوان، وتروي لنا إيقاعات نازفة، مبلَّلة بدموعِ آدم، تلوّن بوح أغاني التُّراب بندى الصباح، وترسم تراتيلَ حكايةِ الفينيق الأحمر.
كتب الشعر، والقصة، والسيناريو، والأبحاث النقديّة، ورسم البورترية، والانطباعيّ، والرمزيّ، والواقعيّ. أقام معارض داخل وخارج سورية، وحصد الكثير من الجوائز، وآخرها عن لوحة «وطن الفينيق»..
إنه «حسين صقور».. الباحث والفنان التشكيليّ الذي تناولنا في حوارنا معه، كلّ ما يتعلّق بحياته، بدءًا من صرخته الأولى، وصولاً إلى تألقهِ الذي جعلنا نبدأ بسؤاله:
قبل التحرّي عن الدوافع التي سهّلت لك طريق الفنّ والإبداع، نودّ أن تعرّف القارئ بمن تكون؟..
أعود لذاكرتي دون أن ألحّ عليها لتُطلعني في لحظات استرخاءٍ، على ومضاتٍ من الماضي البعيد، وصور لازالت عالقة ومعلّقة، وما زال أثرها حاضراً يرسم شخصي، ويقودني بإرادتي وبغير إرادتي.
ولدت وتوأمي في أسرةٍ مزدحمة، أما الخفايا فتكشفها سلسلة قصصيّة، كنت قد كتبتها سابقاً، وسأنشرها في كتابٍ يرصد مراحل حياتي لاحقاً، وهي بعنوان «ولادة مستمرة».. تبدأ بالمستقبل.
عجوزٌ يخطو مستنداً على عكازه، ضمن صالة عرضٍ، ومعرض بحجمِ طموحاته السابقة، حيث الأضواء والزوّار.. يرقب لوحاته واحدة تلو أخرى، ثم ينتهي به المطاف مستلقياً على أريكةٍ، ومستعيداً مراحل حياته السابقة، من الولادة الأولى إلى الولادة الأخيرة، وما أطيب الحياة والموت بهدوءٍ وسكينة، وسط الزوار والذين يتسابقون لاقتناءِ لوحاته.
عشت طفولة سعيدة ومراهقة صعبة، فجّرت بداخلي طموحاً لا حدود له.. ولدت في بيئةٍ شعبيّةٍ تميّزها الحواري والأزقّة الضيّقة، وهي حيّ المنتزه في اللاذقية.. بعد سنة من ولادتي، انتقلنا إلى حارة شعبية أخرى، هي الأن وسط المدينة، مشروع القلعة، ضمن دارٍ كان ولا يزال، في طور التأسيس. ترعرعت في هذا المكان، وكنت الشاهد على أحداثٍ وتغيّرات كثيرة، أصابت المنطقة ونقلتها تدريجياً، من حسّها الريفيّ الذي كان يميّزها، إلى المدنية حيث الأبنية والعمارات التي شُيدت فوق ركامِ الذكريات.
تلك هي بيئتي، تصحو مع الشّمس التي تشرق من خلف التلال، وتغفو على أنسامِ بحرٍ مازال يبتلع قرص الشّمس، ويعكسه لألئ بلونِ الفضّة والأرجوان.
وهل للبحرِ، ولهذه البيئة، تأثيرٌ في حياتك ولوحاتك؟..
تلك البيئة بكلِّ مكوناتها، سواء الطبيعة المشهديّة، أم المنزليّة، عكست أثراً غير مباشر، أبعد من الصورة المشهديّة لها، إذ تتعدّاه إلى انعكاساتٍ تطال شخص الفنان، وتشكّل شخصيته. بمعنى آخر، البحر بهدوئه وعنفوانه، قد يعكس تلك السمة الانفعاليّة، والطبيعة بغطائها الأخضر. قد تبحث عن مكملاتٍ لونيّة تجدها في ربيع الطبيعة البكر، وفي بعض الزوايا فراشات وأقحوان، ما بين الأزرق غرباً والأخضر شرقاً، وزحف المدينة والمدنيّة بينهما، تصير الحاجة للأرجوانيّ ملحّة. هذا من جهة، وحين تفرض طبيعة النشأة وحياة المدينة صخبهما، تصير العزلة والسكينة مطلباً ضرورياً.
هل كان لوالديكَ أيّ تأثيرٍ على حياتك الفنية؟. ليتك توضّح لنا هذا؟.
كنت أحاول إلى حدٍّ ما، الهروب من الإجابات المباشرة، وأمام إصرارك لا خيار.. ولدت في أسرةٍ مزدحمة بأفرادها، وضمن دار مفتوح ومنفتح على الأقارب والأصدقاء. البساطة والطيبة كانتا السمة التي تميّزنا، وهما أعظم إرثٍ من الوالد.
كانت طفولتي سعيدة إلى حدٍّ ما، فقد كنت أشعر بالتميّز، من خلال بعض المواقف التي كان يتقصّدها الوالد ليفخر بي، كأن يطرح علينا الحزازير والأسئلة، فأكون الأسرع في الإجابة، وهو ما نمّا في داخلي لاحقاً، رغبة عارمة بالإصرار على النجاح، وخصوصاً بعد أن فقدت وافتقدت ذاك الدلال. أمّا في الرسم والفنِّ، فلم ألقَ الرعاية والاهتمام وربما وجِّهت بالعكس، ولاسيما بعد أن تأكّد عشقي للفنّ، وكنت في سنّ المراهقة، وهذا أمرٌ طبيعيّ ضمن أسرة مزدحمة، تشغلها لقمة العيش.
هذا يقودنا إلى السؤال: كيف دخلت عالم الفنّ، وبمن تأثّرت، وكيف أثّرت؟.
من جوابي السابق، يمكن أن تتلمّسي أن خصوصية النشأة والحياة بحدّ ذاتها، هي المؤثّر الأكبر على أعمالي، أما التأثيرات غير المباشرة، فهي واردة طالما كنت أمشي على الطريق، أطَّلعُ على اللوحات العالميّة، وأقرأ بعض السير الذاتيّة، أتفاعل مع الصداقات بين مدٍّ وجذرٍ..
التأثيرات غير المباشرة، لا يمكن حصرها طالما كان الفنان منفتحاً بحبٍّ على الحياة، وتجارب الحبّ هي المفتاح، أخذتني أولاً كفنانٍ، ومن ثمّ كشاعرٍ، وكانت المعادلة الوسطى، أن يغذّي كلاهما الآخر، فتوجّهت إلى النقدِ التشكيليّ، بحسٍّ له خصوصيّته التي تميزه، إذ كنت أغوص في عمقِ اللوحة، وأسبر أغوار التكنيك الخاص، متعدِّياً إلى شخص الفنان، إذ أصوّر بالكلماتِ نبضه، ووقع ريشته، في مجالِ عملي النقديّ هذا.
إن كان لابدّ من ذكرِ أسماء من تأثّرت بهم، ففي بداية حياتي قرأتُ عن حياة «فان غوغ» ثم عن «مالفا».. كنت أبكي كلّما أعدت القراءة، لشعوري بشيءٍ ما يلامسني. عشقتُ التجدّد في «بيكاسو» ولكن، لم أنحز بتبعيةٍ عمياء، لفنون الغرب «مترفة الأناقة»، كونها تفتقد لشيءٍ ما أعشقه، وهو تلقائيةُ وروح الشرق.. تلك التي تجدينها لدى «فاتح المدرس» وغيره من فنانين..
الأن وقد أصبحت عضواً في المكتب التنفيذيّ، ورئيساً لمكتبِ المعارض، ما الذي تطمح لتحقيقه؟.
ببساطة، أسعى لربطِ تلك السلسلة بين الأجيال دائماً، فهناك أسماء وتجارب جديدة، وهي تحتاج للدعمِ، ولاسيما في ظلِّ تلك الظروف القاهرة. السعي بهذا الاتّجاه، دلالة على أن عجلة الفنّ تمشي في اتّجاهها الصحيح، وأن الفنّ السوريّ يتطوّر وينتعش، فلا مبرر ولا صالح لنا، بتكريسِ جيلٍ على حساب آخر..
معك نحو غد مشرق، هو المعرض الافتتاحيّ لنشاطاتِ الموسم الثقافيّ في صالة الشعب.. ماذا تحدثنا عن هذا المعرض؟.
هو بمنزلة تظاهرة تشكيليّة، شملت المركز والفروع، حيث ترافق هذا المعرض مع معارضَ أخرى، في كافةِ فروع الاتحاد، خلال أوقاتٍ متقاربة، وهذا المعرض الممتدُّ على مساحات القطر، بمنزلة رسالةِ حبٍّ وولاءٍ للوطن، ولقائده الدكتور بشار الأسد، ربان السفينة للمستقبل، ولغدٍ مشرق.. هو أيضاً، رسالة للعالم أجمع، بأن سورية قادرة على النهوضِ رغم كلّ التحديات والضغوطات الخارجية، وبعد حربٍ طويلة، خرجت فيها منتصرة ومستمرة في كافة مجالات الحياة.
الحركة التشكيليّة السورية مازالت مستمرة، وهذا بحدِّ ذاته انتصار.. كيف يمكن أن توضح لنا هذا؟..
مازالت المعارض مستمرّة، وما زال الفنّ السوريّ يتطور باستمرار، رغم حاجته للرعاية الدائمة، سواء من مؤسسات الدولة، أم من الشركات والجهات الخاصة. هذا ما طرحته وأطرحه باستمرارٍ، في مجالس المكتب والفروع، وهذا ما أعمل عليه، مدّ شباكِ تعاون شفاف يحمل الكثير من المصداقية والوضوح، بين الفنان وتجّار الفن، لأن الغموض يوقعنا في مطبّات نحن بغنى عنها، ويزيد بيننا البعد والجفاء.
الأمل بالعمل، هو شعار المرحلة اللاحقة، كيف يتحقّق هذا الشّعار، في الفنّ التشكيليّ؟..
الأمل بالعمل، بالمحبة، بالتسامح، وبالإيمان بالفنِّ السوريّ الذي له خصوصيّته العالميّة، بحيث يمكن أن يصير مشروعاً رابحاً، لجميع المستثمرين القادرين على الاقتناء، وعلى التبصّر بأن المستقبل للتجارب الفريدة والمميّزة، وأن العلاقة بين المستثمر المتبصّر للمستقبل والفنان، غير محكومة باستغلال حالة الفنان ووضعه الاقتصاديّ، بل مبنيّة على المحبّة، فأيّ فنان مخلص لعمله، أيّا كان وضعه، قد يقدّم عمله الذي رسمه بدمه كهديّة مجانيّة، أو قد يتبرّع به لأيّ جهةٍ تحتاج المساعدة، لكنه لا يقبل بأن يبخس العمل حقّه. الأمل بالعمل، شعار يستدعي التعاون بين الجميع. أغنياء وفقراء، وهو تعاون يعود بالمنفعة على الطرفين، وينهض بالبلدِ..
يتساءل البعض عن الدعوات للمعارض، وفق أيّة نظم تتمّ؟.
سواء أكان في هذا المعرض أم في المعارض التي تليه، وأقصد المفتوحة للجميع، لا المحصورة ضمن عنوان محدّد، كـ «معرض للتعبيريين، أو التجريد، أو تجارب حداثية، أو… «، الدعوات تأتي عبر تعميم للفروع، ولكافة الفنانين الراغبين بالمشاركة، قبل مدة كافية، ولأن الراغبين بالمشاركة كُثر، يأتي الترشيح عبر لجان في الفروع، ليتمّ الاختيار من قِبلها، عبر لجنة مخصّصة في المكتب المركزي، ويشترط على الفروع التعميم والتنويع، وترشيح أسماء جديدة دوماً، وقد يتمّ الاكتفاء باللجنة المركزيّة، بحيث تُرسل أعمال الراغبين بالمشاركة عبر إيميل الاتّحاد، ثمّ يبلّغ المقبولين لإرسال أعمالهم.
ماذا عن المشاركة في معرض «معك نحو غدٍ أفضل». كيف جاءت المشاركات؟..
المشاركات في هذا المعرض كانت غنية ومتنوعة من حيث الأسلوب والمواضيع، من تعبيرية إلى تعبيرية تجريدية، إلى تجريد وتجارب حداثية، إلى الأعمال التي تحمل حسّاً هندسياً معمارياً، وتلك التي ترتبط بالديكور، كما تنوعت المواضيع لترصد الأحياء القديمة والنواعير والبورتريه وإيحاءات يعكسها الجسد بلمساتٍ حرّة، بالإضافة للمواضيع التي تعكس أفكاراً تنمُّ عن حبّ الوطن، وكلّ المواضيع تصبُّ في هذا الإطار.
ما الذي تود أن تضيفه في نهاية هذا الحوار؟.
أودُّ القول: دخلت دمشق سابقاً بروحي، قبل أن أدخلها بجسدي.. دخلت إلى قلوب من كتبت عنهم من الفنانين، بأسلوبيةٍ خاصة تعانق الكلمة فيها ألوان وخطوط من سبق ذكرهم، وتحلّل بعمقٍ يتعدى اللوحة إلى شخص الفنان، أما وقد دخلتها الآن محمّلاً بمسؤوليةٍ، وقد وهبت نفسي لها رغم قسوة الظروف المحيطة، فأرجو أن يكون الجميع معي، وأنا بكلّ المحبة معهم، لتمتدُّ الأيادي ولنتعاون معاً..
اقترح تنشيط جمعية الباحثين التي يترأَّسها الأستاذ والناقد «سعد القاسم»، الذي أكنُّ له كلّ التقدير والاحترام، وأنا أدعوهم وأمدُّ يدي للتعاون معهم، في تفعيل الندواتِ الثقافيّة بالاتحاد المركزيّ، فسورية تكبر وتستمر عبر التواصل بين الأجيال، وعبر تبادل الخبرات.
التاريخ: الثلاثاء22-6-2021
رقم العدد :1051