الملحق الثقافي:حوار: عبد الحكيم مرزوق:
ينتمي الشاعر “عبد الكريم الناعم” إلى جيلِ خمسينياتِ القرن الماضي، حيث كان همّ التقدّم، والوحدة، والعدالة الاجتماعيّة، والتحرّر من القيود المُكبِّلة، قاسماً لأنه كان من جيلٍ مختلف ومتميّز، عن غيره من الأجيال التي عاصرت وعايشت أحداثاً هامة، وهي التي آمنت بالوحدة وحملت الهمّ الوطنيّ، قولاً وفعلاً، في الكثير من مراحل الحياة.
كتب في الصحافة، الزاوية الصحفيّة، وفي المقالات السياسيّة والفكريّة، وفي الزوايا الاجتماعيّة، إضافة إلى مقالاتٍ أدبيّة متعدّدة، وخاصة في نقدِ الشعر، كما كتب في الفلكلور الشعبي، وله اهتمامٌ خاص بما يتعلّق بقضايا الفولكلور، وخاصة فولكلور الريف.
في حوارنا معه، حاولنا أن نخرج عن النمطِ التقليديّ، وكان سؤالنا الأول :
أنت من جيلِ شعراءٍ وأدباءٍ مهمّين في سوريّة، والوطن العربيّ، ما القاسم المشترك برأيك بينك وبينهم، في الهمّ السياسيّ والإبداعيّ؟.
مريحٌ أنّك حدّدتَ حقلين في الجيل الذي أشرتَ إليه.. على مستوى الهمّ السياسيّ، منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، كان يجمعنا همّ التقدّم، والوحدة، والعدالة الاجتماعيّة، والتحرّر من القيود المُكبِّلة، وكنّا نختلف في فضاءات الأيديولوجيا بهذا القدر أو ذاك، وكانت العلاقات الاجتماعيّة كثيراً ما تُبنى على ذلك دون إحداث قطيعة، ولكنّ الزلزال الذي ضرب سوريّة عام 2011 أحدث شرخاً كبيراً، إذْ وجدنا من هؤلاء مَن كان يُعدّ من أقطاب اليسار، فإذا به يقف في الصفّ الدّاعم لحَمَلة السلاح في وجه الدولة، وثمّة مَن صمتَ خوفاً أو مداراة، وهذا كلّه في الجانب السياسيّ، ولقد تعرّضتُ لشيءٍ من هذا في كتابي “شرفاتٌ للشعر والثقافة” الصادر عن الهيئة العامّة السوريّة للكتاب- وزارة الثقافة عام 2020، وعالجتُه في مكانه.
أمّا على المستوى الإبداعيّ، فيختلف الموضوع باختلاف الموهبة، ففي هذا الجيل مَن ظلّ يُراوح في مكانه، إلاّ من لمعة هنا وأُخرى هناك، وهناك مَن تطوّر تطوّراً يمكن القول فيه إنّه نوعي، وهذا يرجع للموهبة، وللنزعات الداخليّة، ونظرة الشاعر للكون والمجتمع.
كيف ترى المستوى العام للشّعر في سوريّة؟.
أعتقد أنّنا جزء من المشهد العربيّ العام، والمسافات التي تبدو فيافي كبيرة، لا تُقطع إلا من فعل السياسة.
المستوى العام في تراجع، وفي فوضى عارمة، لاسيّما بعد انتشار منصّات التواصل الاجتماعي، فأنت ترى شاعراً/ أو شاعرة تنبق كلّ يومين، وساعد في التّدهور أنّ مراكزنا الثقافيّة انساقت وراء ذلك بحكم الأميّة الثقافيّة لمعظم مدراء المراكز، وأعتقد أنّ النهوض متعلّق بشكلٍ ما، مع النّهوض العام وعلى المستويات كافّة، بعد هذا الخراب العربيّ الذي لم يدع مساحة إلاّ وترك فيها آثاره المُدمِّرة المُدَمَّرة، إننّا نعاني من انحدارٍ مخيف، ولعلّ بعض ما يُريح فيه أنّه لا يستطيع إلغاء المواهب الإبداعيّة التي تتفتّح بجدارة.
نحن في زمنٍ يكثر فيه المُدّعون في الشّعر والثقافة والأدب والسياسة، هل ترى أنّهم المُتواجدون في السّاحة؟.
اسمح لي بداية، لفت الانتباه إلى تعبير “المُتواجِد”، فهو خطأ شائع، وقد تكلّم غيري منذ سنوات بعيدة في ذلك، فأشاروا إلى أنّ معناها من “الوَجْد”، والأصحّ أن نقول إنّهم “موجودون”.
أنت أوجزتَ وأشرتَ في سؤالك إلى أنّهم “المُدَّعون”، وليس مدّعي الفعل كالمُبدع الأصيل، وثمّة من المبدعين الأصلاء، مَن هم موجودون، وبجدارة، لمن يبحث عنهم، وهذه الأمّة ولاّدة كما يقولون، غير أنّ أزمنة الانهيارات تعطي فرصة نادرة للمُدّعين، وعسى ألاّ يطول ذلك.
الإبداع بخير، ولكنّ مدّعيّ الإبداع كالعملة الرديئة، لا تترك مجالاً للعُملة السليمة، وهذا ينطبق على بقيّة مساحة السؤال.
أنت عضو في اتحاد الكتاب العرب، ماذا قدّم لك الاتحاد، هل تراه مقصِّراً تجاهك وتجاه الأدباء السوريين، وما الذي ينبغي عمله؟.
ملاحظاتي على الاتحاد، كتبتُها ونشرتُها وهي تطالب بما هو أكمل، ولن أعود إليها، ولكي نكون منصفين، فإنّ هذا الاتحاد قدّم فرصاً نادرة لأعضائه، من طباعة لمخطوطاتهم، ومن تبادل الوفود مع الاتحادات الأخرى عربية وغير عربيّة، وهو الاتحاد الوحيد في العالم الذي يخصّص تقاعداً لأفراده، وقد سمعت أنّ هذا قد ضوعِف هذا العام، وسأضرب مثالاً بنفسي، فقد صدر لي حتى الآن تسع وعشرون مجموعة شعريّة، منها خمسة عشرة مجموعة صدرت عن الاتحاد، والباقي عن وزارة الثقافة، عدا ثلاث مجموعات صدرت في تونس، والأردن، وواحدة عن “دار ورد” في سوريّة، لنتصوّر أن هذا الاتّحاد غير موجود، ماذا كان يمكن أن نفعل، نحن الذين بالكاد نستطيع تأمين لقمة العيش؟!.. لقد قدّم الاتحاد الكثير الكثير، ونطمح إلى المزيد من سدّ الثغرات.
برأيك، لماذا لا يتواجد الأدباء المبدعون الحقيقيون في الاتّحاد؟..
السؤال يحتاج إلى شيءٍ من الإنصاف، جميع الذين مرّوا بقيادة هذا الاتحاد كانوا من الأدباء السوريين الذين انتموا إلى هذا الاتحاد، قد نختلف في قيمة هذا المُبدِع أو ذاك، لكنّنا لا نستطيع أن ننفي عنهم أنّهم أعضاء في هذا الاتحاد، وكانوا يصلون إلى مواقعهم عبر الانتخابات التي قد يكون لنا ملاحظات عليها، ولقد سمعت أنّ الانتخابات الأخيرة لم يتدخّل بها أحد، لا من قريبٍ ولا من بعيد، وأنت تعلم أنّ لكلّ عمل انتخابيّ إيجابياته وسلبياته، ولكنّ الإجراء الديموقراطي يظلّ أفضل من عدمه، وغياب عدد قليل عن الاتّحاد لا يعني غياب المُبدعين .
هل تعتقد أنّ الحياة المعيشيّة وصعوبتها والغلاء، هم السبب في الابتعاد عن الثقافة والقراءة؟.
هذا أحد الأسباب، بل هذا الظاهر من جبلِ الجليد العائم، تُرى من الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه،؟. لاشكّ أنّ الخارج المتمثّل بواشنطن وتل أبيب وملحقاتهما، من عربٍ وغير عرب، قد لعبوا دوراً كبيرا في إنزال هذه الكارثة، وآزر ذلك التسيّب والفلتان والفوضى والنّهب المنظّم، وما فعله حيتان المال، بما لهم من امتداداتٍ سرطانيّة.. كلّ من هؤلاء لعب دوره، ويجب ألاّ يغيب عن البال، أنّ ثمّة أيدٍ خفيّة شديدة الخطورة، تعمل على تجهيل العالم، لتسهل قيادته، وتوجيهه الوجهة التي يريدها قوارين الذهب في العالم، والشعب والمعنيّون ومن يستسلم لهذا الطوفان، لن يحصدوا إلاّ الخيبات، فما من نهوضٍ إلاّ بالوعي، وانتشار الثقافة والقيم الأخلاقيّة النّاصعة.
تكتب المقالة الأسبوعيّة منذ سنوات عديدة في “العروبة الحمصية”، ماذا قدّمتْ لك، وماذا قدّمتَ لهذه المساحة الأسبوعيّة؟..
لم يخطر ببالي مثل هذا السؤال. أنا ابن بيئةٍ شعبيّة، وبغضّ النّظر عن هذا الأمر، فإن في أعماقي رفض لا يقبل المساومة على أيّ خطأ، أو تفلّت من القانون، ويؤذيني الظلم حيثما وُجد، وفي أعماقي همّ قوميّ مذ وعيت، .. هذا وما يمكن أن يُلحق به يشكّل دافعاً قويّاً للوقوف ضدّه، ولذا فأنا أرفع صوتي معبّراً عن رفضي لكلّ ما يجرح كرامة الإنسان، ولعلّني كنتُ أرتاح لنظرة عين تقول لي لقد عبّرتَ عن همّي، أو لتعليقةٍ على صفحاتِ التواصل الاجتماعيّ، فأشعر أنّني ما زلتُ أحمل شمعتي في هذا الظلام الضّارب .
إذا نظرتَ للسنوات الماضية في حياتك المليئة بالأحداث والإبداعات، ما هو الشيء الذي ما زال راسخاً في ذهنك من تلك الرحلة، وما الذي كنتَ تأمل إنجازه ولم تنجزه، وهل كانت لديك أحلام كثيرة لم تتحقّق؟…
سأبدأ من الزمن الذي أنا فيه.. ما يترسّخ في ذهني أنّ هذا العالم الجميل البهيّ، بستان الله الذي أعدّه لرحلة مخلوقاته، وهذه النجوم في السماء.. هذا كلّه أُعدّ ليليق بهذه الكائنات، ولكنّ الذي شوّه الكثير الكثير من اللوحة الربّانيّة، جشع الجشعين، وطمع الطامعين، وجبروت المتسلّطين، ما يشكّل حافزاً أخلاقيّا ودينيّاً وإنسانيّاً، للنضالِ ضد كلّ ما يُسيء للّوحة الربّانيّة، وهذا من أعظم الانتماءات وأرقاها.
أمّا الذي لم أُنجزه فهو الكثير الكثير، أنا من جيلٍ آمن بالوحدة العربيّة، والديموقراطيّة، والعدالة الاجتماعيّة، وتحرير المُغتصَب من الأرض، وقد مررنا بمراحلٍ كنّا نظنّ فيها، أنّ أحلامنا تقف وراء الباب، ولا تحتاج إلاّ خطوة لنفتح لها لتدخل، فإذا بنا منذ كامب ديفيد، وأذيالها وما تلاها، نتقهقر حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، وهذا الكلام ليس دعوة لليأس، بل هو من أجل التحريضِ الواعي لنهوضٍ جديد، يستدرك كلّ أخطاء الماضي، وعبر هذه المساحة، ترى كم كان الأملُ كبيراً، وكم كانت الصدمة مزلزِلة.
بماذا يفكّر الآن عبد الكريم النّاعم؟.
قد يكون السؤال مقلوباً هو الأجدر، بماذا لا أفكّر، انا أفكّر في كلّ ما يخطر على بالي، ولا شكّ أنّ الخراب الذي ضُربت به سورية، بنتائجه السياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة الأخلاقيّة، يكاد يضرب حصاراً على ما عداه، ولا أُنكر أنّني كعروبيّ تقدّميّ، تشغلني كلّ شواغل وطننا الكبير، وتلك همومٌ تنوءُ بها النفوس الشاعرة المُرهفة.
كيف هي علاقتك مع الأدباء والمهتمّين وماذا تقول لهم؟
أنا في عُزلة حقيقيّة منذ بدايات إيقاد نيران الخراب، نادراً ما أغادر البيت إلاّ لضرورة لا بدّ منها، وعلاقتي مع الأدباء، رغم التّباعد، هي نتيجة لموقف كلّ منهم من أحداث الخراب الذي مُنيت به سوريّة، فأنا لا يمكن أن ألتقي مع مَن وقف مع المسلّحين، أمّا الذي صمت فقد أجد له عذره، إلاّ إذا ثبت أنّه كان ينطوي على ميْل مُدان لم يُفصح عنه، وأقول للذين ركبوا القطار التركي، الداعشي، الصهيونيّ: إتَّقوا الله في بلدكم، والشعب الذي كنتم منه”.
هل تعتقد أنّ الأزمات تُشعل جذوة الإبداع؟
نعم بكلّ تأكيد، فالأزمة التي ما زالت تمرّ بها سوريّة والمنطقة، جعلتْني أكتب مجموعة شعريّة بعنوان “لأقمارِ الوقت” صدرت عن وزارة الثقافة عام 2017 وكلّها قصائد مُستلهَمة من المجريات اللآّهبة التي كانت تحيط بنا.
بطاقة تعريف:
ولد الشاعر “عبد الكريم الناعم” في محافظة حماة، تعلم في الكتّاب القراءة والكتابة، ثم انتقل مع أهله إلى مدينة حمص، وأرسل في الثانية عشرة من عمره، ليدرس في مدارسها.. توقف لأسباب مالية، ومن ثمَّ تابع وحصل على الشهادة الإعدادية وبعدها الثانوية.
عمل مدرّساً في منبج عام 1955، وتدرج في عدة وظائف كما اشتغل في الصحافة والإذاعة.. كان عضواً في جمعية الشعر ضمن اتحاد الكتاب العرب، وشغل أمين سر في فرع اتحاد الكتاب العرب في حمص لعدة سنوات.. شارك في العديد من المهرجانات الأدبية والثقافية داخل وخارج سورية، وكرّمه فرع اتحاد الكتاب العرب في حمص في 21 أكتوبر 2017.
من دواوينه الشعرية:
زهرة النار، حصاد الشّمس، الكتابة على جذوع الشجر القاسي، الرحيل والصوت البدوي، عينا حبيبتي والاغتراب، تنويعات على وتر الجرح، عنود، دارة، احتراق عباد الشمس، أقواس، من مقام النوى، أمير الخراب، من سكر الطين، عراق، من ذاكرة النهر، مائدة الفحم وغيرهم الكثير..
التاريخ: الثلاثاء22-6-2021
رقم العدد :1051