الثورة أون لاين:
مرت الذكرى التاسعة والأربعون لاغتيال الكاتب العربي الفلسطيني غسان كنفاني الصوت المدوي بوجه الظلم والطغيان ..
ام سعد روايته التي تجسد هذا النضال ..نقتطف منها ..
كان صباح الثلاثاء ماطراً، ودخلت أم سعد وهي تقطر ماء. كان شعرها مبتلاً، وينقط على وجهها…. وقالت: – هذا ليس مطراً، السماء، يا ابن عمي، تكب سطولاً. وابتسمت، ولكنني رأيت شريطاً من الوحل الأحمر يطوق طرف ردائها وهي تستدير. قلت لها: ماذا يا أم سعد؟ هل وقعت؟ وبسرعة التفتت إلي: – وقعت؟ أم سعد لا تقع. لماذا؟ – ثمة وحل على تنورتك. ……. – طاف المخيم في الليل .. الله يقطع هالعيشة. واهتز الجبل أمامي، ثمة دموع عميقة أخذت تشق طريقها إلى فوق، لقد رأيت أناساً كثيرين يبكون. رأيت دموعاً في عيون لا حصر لها، دموع الخيبة واليأس والسقوط. الحزن والمأساة والتصدع. رأيت دموع الوجد والتوسل…. لكنها أبداً أبداً لم تكن مثل دموع أم سعد…. عمري كله لم أر كيف يبكي الإنسان مثلما بكت أم سعد. تفجر البكاء من مسام جلدها كله. أخذت كفاها اليابستان تنشجان بصوت مسموع. كان شعرها يقطر دموعاً. شفتاها عنقها، مزق ثوبها المنهك، جبهتها العالية، وتلك الشامة المعلقة على ذقنها كالراية، ولكن ليس عينيها. – ولو يا أم سعد؟ انت تبكين؟ – أنا لا أبكي يا ابن عمي. أود لو أستطيع. لقد بكينا كثيراً. كثيراً .. كثيراً. أنت تعرف. بكينا أكثر مما طافت الماء في المخيم ليلة أمس، وذات صباح كان سعد قد ذهب. إنه يحمل مرتينة الآن، وتشتي عليه ماء ورصاصاً…. ……. – … أتعرف ماذا كان يفعل سعد حين كان يطوف المخيم؟ كان يقف ويتفرج على الرجال وهم يجرفون الوحل، …. كان منصرفاً إلى التفكير وكأن الفكرة راقت له، كأنه سيذهب في اليوم التالي ليسد ذلك المزراب. – ثم ذهب؟ – ثم ذهب. ……. – اتعرف، يا ابن عمي؟ أنا لست قلقة عليه. لا. هذا ليس صحيحاً. قلقة. قلقة وغير قلقة….فأمس فقط جاء رفيقه وقال لي انه بخير. – جاء عندك؟ – لم أر وجهه…. كان عملاقاً، يخزي العين، وقال لي: “سعد يسلم عليك. إنه بخير. وسيهديك غداً سيارة” ثم ذهب. – يهديك سيارة؟ – أجل. ألا تعرف؟ يعني انه سينسف سيارة. – وهل فعل؟ – ماذا؟ سعد لا يقول شيئاً ثم لا يفعله. أنا أعرفه جيداً. ……. لقد انتظرت حتى المساء لأسمع نبأ سقوط سيارة إسرائيلية في كمين مقاتلين. وارتقبت بلهفة أن أسمع تلك التتمة الرائعة للخبر: “وعاد الفدائيون إلى قواعدهم سالمين”. لست أدري لماذا مضيت من توي إلى المخيم، وفي مستنقع الوحل شهدت أم سعد واقفة مثل شارة الضوء في بحر لا نهاية له من الظلام، وقد رأتني قادماً، فلوحت بيديها، كان صوتها أعلى من صوت الرعد المدوي في سقف السماء، وانهمر الصدى من كل صوب كالشلال: – أرأيت؟ قلت لك إن سعد سيهدي أمه سيارة. ……. مقتطفات من غسان كنفاني: “أم سعد” (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية. الطبعة الرابعة، 1987).