بعد أن انتصرت الرواية على أقرانها من الأجناس الأدبية الأخرى كالمسرح، والمقالة، والقصة، والشعر، لتحتل ساحة الأدب الواسعة، كان من أثر ذلك أن غابت القصة القصيرة عن تلك الساحة إلا من قليل منها، وما عاد لها رواجها السابق، ولا ألقها المعهود، وما عاد أيضاً القارئ يبحث عنها بعد أن أسرته الرواية فستأثرت به.
وحتى عقود قريبة كانت القصة القصيرة ملكة الأدب على الساحتين العربية، والعالمية.. وكثير من الأدباء ممن لمعت أسماؤهم في الستينيات، والسبعينيات من القرن الماضي عُرفوا من خلالها قبل أن يتوجهوا في مراحل تالية من مسيرتهم الأدبية نحو الرواية، ولكلٍ من هذين الجنسين الأدبيين مقوماته، وشروطه، وعناصره التي تضبطه بعيداً عن الخلط بينهما.
فالقصة القصيرة تقوم على مبدأ التكثيف لذا فهي لا تقل براعة عن الرواية إن لم تكن تتفوق عليها في هذا الاتجاه. اما القارئ الذي أصبح يبحث عن المتعة الممتدة على مدى صفحات الرواية فلم يعد يثيره تكثيف القصة، ولا براعة حبكتها مقارنة بما تقدمه له الرواية المعاصرة، وهذا لعله لا يتناسب مع سرعة العصر، وما يتداوله الناس عموماً من أخبار، وموضوعات سريعة يلتقطونها من كل اتجاه.. فلماذا اذاً أصبح القارئ ينجذب إلى الرواية دون القصة، وهو الذي يمكن أن نصفه الآن على أنه من أصحاب (النَفس القرائي) القصير، إذ أنه بات يبحث عن كل ما يتناسب وإيقاع العصر من سرعة في الوصول إلى الهدف، والمعنى، والمقصد؟ بل لعل مسارات الرواية المتعددة من خلال تعدد شخوصها، وأحداثها، وتنامي الصراع فيها وصولاً إلى ذروته، قد غدت هي الأقرب إلى النفس الإنسانية، والأكثر وقعاً، وتأثيراً، بما يتناسب وتعدد مسارات الحياة المعاصرة التي اتسعت دائرتها بعد الثورة الرقمية التي مازلنا كأفراد، ومجتمعات منبهرين بإنجازاتها، ومترقبين باستمرار لما ستأتي به أيضاً في المستقبل القريب قبل البعيد.
والرواية بما تملكه من إمكانية للتعبير عن المشاعر، والعاطفة، ورصد تجارب الحياة كذلك تفعل القصة القصيرة، وتأثيرها لا يمكن إغفاله، و(معطف) الكاتب الروسي الشهير (غوغول) في قصته القصيرة أوضح دليل على ذلك.. تلك القصة تحمل في سطورها أكثر من رواية، رغم أن الرواية تعتبر حياة كاملة بينما القصة ترصد جانباً فقط من الحياة عبر سطورها مهما طالت، لكن قصة (غوغول) هذه تجاوزت لبراعة فنيتها.
إذاً فالقصة القصيرة قادرة على أن تخلق عالمها المثالي، وفضاءً بلا حدود إذا ما برع الكاتب في استخدام أدواتها، وجدد في روحها، وعلى رأي أحد مؤسسي الأدب الجزائري الحديث الناقد (عبد الله الركيبي) إذ يقول: “إن الفنان الأصيل هو الذي يبحث دائماً عن الإنسان فيعبّر عن قضاياه الخاصة والعامة، كما عن قلقه، وطموحه، وأشواقه، أو باختصار عن حياته المادية، والروحية معاً”.
وها هي القصة القصيرة إذ تنهض الآن من جديد في معارض الكتاب على قلة هذه المعارض في الوقت الحالي نتيجة الظروف العالمية الطارئة التي تستدعي الوقاية، والحماية من تفشي الأوبئة، فإنها ــ أي القصة القصيرة ــ تلقي بأحجار ولو كانت صغيرة في المياه الراكدة، لتتسع بالتالي دوائر إنتاجها نشراً، ونقداً، وقراءة من المتلقي، والجوائز التي أصبحت مؤخراً تُرصد لها، وربما تحولاً نحو الدراما، والسينما.. فمن المتوقع أنه سيأتي يوم قريب تنافس فيه الرواية لتعود فتتربع على عرشها كما سابق عهدها؟
وإذ تعود القصة القصيرة بعد غياب إلى الظهور مجدداً في فضاء الأدب فلربما كان كم التجريب الكبير الذي نال من الرواية في الآونة الأخيرة سواء نجح، أو فشل، هو واحد من الأسباب التي استدعت هذه العودة، وعندئذ لن يخاف الناشر بالتالي من نشر المجموعات القصصية، ولن يعتبر موقفه الإيجابي منها هو مغامرة على صعيد النشر.
وها نحن نترقب ما ستجود به ملكة الأدب من إبداعات تعود بها وبنا إلى زمن توهج الكلمة.
إضاءات – لينـــــــا كيــــــــلاني: