أصبحنا نعيب على استخدام اللغة العامية في مجالات كثيرة، وإلى جانبها الاستخدام الخاطئ للغة. والرسائل النصية السريعة التي يتبادلها الناس فيما بينهم قد ساعدت على ذلك، إن لم تكن هي السبب المباشر لشيوع العامية المكتوبة، ولتكرار أخطاء اللغة بما هو جديد المتداول، وهي تسري من شخص لآخر دون الالتفات إلى ضرورة تصحيحها، أو تقويم اعوجاجها، بل هي المراسلات السريعة التي تؤدي الغرض منها كهدف أساسي.. هذا عدا عن لغة (الفرانكو آراب) التي تتداخل فيها العربية مع الأجنبية، وتلك الأخرى التي أحلت الحروف اللاتينية مكان الحروف العربية، إضافة إلى الاشتقاقات اللغوية العجيبة الغريبة منها والتي تتجاوز كل المعايير.. ومن المفارقة أيضاً أن ردود الرسائل السريعة لو جاءت بالفصحى لحملت معها الاستنكار، وربما السخرية من الطرف المرسل.
إلا أن هذا لا يأتي من فراغ وإنما هو حصيلة أجواء ثقافية، ومناخ عام لا يشجع على تذوق جمالية اللغة، وروعة خطوطها، ولا يستنكر هذه التجاوزات عليها، ولا يغار على حاضر الثقافة العربية رغم الأحداث الكبيرة التي هزت عالمنا العربي من أدناه إلى أقصاه، وهي على أي حال لم تفرز توجهاً ثقافياً واضحاً ينهض فعلاً بالفن، والأدب، ويحمي أسوار لغتنا من الانهيار.. ففي الأدب على سبيل المثال لم تفرز هذه المرحلة المتفجرة بالأحداث الدرامية على مدى سنوات أكثر من بضع روايات متواضع أغلبها، ويقع في دائرة التجريب للمبتدئين الذين برزوا فجأة على الساحة بتشجيع من مواقع التواصل الاجتماعي، وهي التي حققت لهم هذا التواصل، ليخرجوا إلينا بأعمال قد أربكتها ضبابية الرؤية المشهدية في صياغة تفاصيلها.
أما وسائل الإعلام العربية على تنوعها، وكثرتها فقد أصبحت تتكئ على العامية أكثر مما تهتم بالفصحى كلغة لها وقعها المؤثر، وامتدادها العميق في جذور الثقافة.. فالبرامج الحوارية، والأخرى الترفيهية، وما يتبعها من مسلسلات، وأفلام، وحتى الدعايات، وبعض نشرات الأخبار أصبحت لا تُبث إلا بالعامية بعد أن استبعدت تلك القنوات الإعلامية من سياساتها اللغة الفصحى استسهالاً، أو استهتاراً، أو سوء تقدير للعواقب على المدى الطويل.. وهذا الأمر وصل أيضاً إلى الأدب وباتت بعض الأعمال الأدبية وخاصة في مجال الرواية تصدر وهي تُحل العامية مكان ما قد تعودنا عليه من لغة سليمة نقرؤها بين طيات الكتب.. أما فن الغناء فقد بات ومنذ وقت ليس بقريب يبعد بمسافات لا تحصى عن أصول اللغة، وكذلك حال المسرح، والسينما، وأغلب أعمال (الدوبلاج).
إلا أن مجامع اللغة العربية قد تنبهت لهذا الأمر ووصفت ما تتعرض له الفصحى من تجاوز على حقوقها بأنها ظاهرة (غير مسبوقة)، ولا مألوفة في كثافتها، وحدّتها، وأن على الدول أن تلتفت بجدية إلى معالجة هذه الظاهرة المتسارعة بوسائل مختلفة هي الأقدر على تحديدها، وقبل أن تنزل تلك الملكة عن عرشها إذا ما كثرت خدوش حروفها.
وها نحن نلاحظ اليوم اهتمام الآباء بتعلم أبنائهم للغات الأجنبية، بينما مدارسها تتكاثر نظراً للإقبال عليها.. اهتمام مبالغ فيه حتى كاد الأبناء ينسون لغتهم الأم في أوطانهم وهم يرطنون باللغة الأجنبية بحجة ضرورة تعلمها منذ الصغر.. وإذا كان الطفل في سنواته الأولى يستطيع أن يتعلم أكثر من لغة واحدة في آنٍ معاً، فأين إذاً حصة لغة أهله، وبلاده من هذا؟ أليست اللغة انتماء أيضاً إلى الأرض التي نبتت منها، وإلى الأوطان؟
ثم ماذا بعد؟.. أليس العزوف عن القراءة لصالح لغة الصورة التي اجتاحت، والتي تختصر في مشهد واحد بضع صفحات، أليس هذا من أسباب إضعاف اللغة، وانهيارها؟ وما بالنا بمن يتلقى أغلب تعليمه باللغة الأجنبية ألن تضيع منه معاني المفردات حتى لا يستطيع أن يدرك المعنى كاملاً إلا بعد جهد، وضيق؟ والسلسلة تتصل ولا تنقطع بين ضعف الحوار باستخدام اللغة الأصل، والذي يؤدي بدوره إلى صعوبة القراءة فيها، وبالتالي الكتابة، ومن ثم ضعفها والانصراف عنها، وصولاً إلى أبعد من ذلك في منهج التفكير الذي تفرضه كل لغة حسب مفرداتها، فالتشتت وارد ما لم يتم تأصيل اللغة الأم أولاً. يقول علماء الاجتماع أنه لا توجد (جملة) غير مفهومة، وإنما هي (كلمة) في سياق المكتوب غير مفهومة المعنى ما يجعل كامل الجملة عصية على الفهم.
الصورة تتشكل من أجزاء، وما لم تترابط هذه الأجزاء في مواقعها الصحيحة فلن تكتمل الصورة، وهذا هو حالنا مع لغة الضاد بتفرعات القنوات التي توصل إلى الحفاظ عليها نقية مشعة كما ينبغي لها أن تكون.. وليس من سبيل إلى هذا سوى تشخيص الداء ليأتي من ثم الدواء، فلا يكون بعد ذلك إحلال العامية حيث يجب أن تكون الفصحى.
(إضاءات) ـ لينــــــا كيـــــــــلاني
* * *