قبل عشر سنوات تماماً، وفي صباح لاهب حزين من شهر آب، توقف موكبه الجنائزي لبرهة عند تخوم دمشق الشمالية، كان أبو مضر – كما أعتدنا مناداة زميلنا جلال خير بك تحبباً واحتراماً- يودعنا للمرة الأخيرة مودعاً في أعماقنا ذكريات عشرات اللحظات الجميلة، وصورة موحدة عن رجل اتسم بالرصانة والنزاهة والطيبة والإخلاص.
انتقل أبو مضر من اللاذقية إلى دمشق في الستينات ليدرس الأدب العربي في جامعتها مستجيباً لعشقه للكلمة التي كرّس لها حياته منذ ذلك الوقت، شاعراً لم يتح لكلماته أن تجتمع في ديوان خاص، وصحفياً في صحيفة (الثورة) لم يغير موقعه القيادي فيها من طبيعته الإنسانية شيئاً. ليختتم حياته المهنية بإصدار مجلة (اليسار) التي جمع فيها بين فكره القومي العربي، واحترامه لفكر شقيقه الشهيد كمال خير بك البطل القومي السوري الذي قدّم سنوات عمره في سبيل فلسطين، قبل أن يستشهد لأجلها.
في مطلع الثمانينات بدأت عملي في صحيفة (الثورة) وسرعان ما وجدت نفسي منجذباً إلى مجموعة من محرريها المخضرمين الذين كانت تجمعهم غرفة الزميل أسعد عبود وكان جلال خير بك واحداً منهم، كان الانطباع الأول الذي يتلقاه من يلتقيه أول مرة، هو ذات الانطباع الأخير: رجلٌ أنيق الشكل والحضور يمتلك قدراً كبيراً من الاعتداد بالنفس الممزوج بالتواضع والتهذيب واحترام الآخرين، وبمسحة خاصة من المرح الأنيق كأناقة صاحبه التي طالما كانت موضع حديث يتأرجح بين الإعجاب، والتندر بحرصه على أصغر التفاصيل. إلا أن اللحظة الأكثر إمتاعاً في حضوره كانت اللحظة التي تنتقل فيها مشاعره بسرعة خاطفة من السخط إلى الرضا بابتسامة مميزة تبدل حال الوجه المتجهم، كما حاله حين يلتقط المفارقة في حدث أزعجه، أو استحضار طرفة ما تكون خاتمة حديث منفعل.
كان أبو مضر يدخل الغرفة عادة وعلى وجهه ابتسامة حصيفة، تتسع في حال تذكر واحدة من الحكايات الطريفة الغريبة، لكن هذا الحال سرعان ما يتحول إلى سخط لا يخفي نفسه حين يسمع حديثاً عن كرة القدم التي يكرهها إلى أبعد مدى، خاصة إذا كان المرحوم أحمد عجاج يحلل بحماسة معهودة مجريات مباراة الأمس، وأخطاء اللاعبين والمدربين والحكام.. والجمهور. كان هذا الحال بتناقضاته يثير جواً رائعاً من المرح تتعالى معه أصوات الضحك التي يشترك فيه الجميع حتى تبلغ الغرف المجاورة. بل أننا كثيراً ما تعمدنا – لأجل استحضار ذلك الجو الرائع – تحويل الحديث أياً كانت طبيعته، إلى كرة القدم، فور دخول زميلنا جلال إلى الغرفة. ومن أطرف الحكايات في هذا المجال أنه وجد يوماً كرة قدم في عقر داره فحاول الإطاحة بها إلى الشارع غاضباً. لكن قلّة خبرته الكروية أدت الى ارتطام قدمه بقوة في قطعة أثاث ألحقت بها ألماً شديداً دام بعض الوقت، وبقيت الكرة في مكانها.
حين حدثنا بهذه الواقعة الكروية نظرنا إلى النصف الممتلئ من الكأس، واعتبرنا أن صديقنا العزيز قد بدأ بتقبل فكرة كرة القدم حتى لو جاء الأمر كما جاء، وتوهمنا أننا على موعد مع أحداث تؤكد صواب رأينا. حين كان منتخبنا الوطني يحرز نتائج طيبة في البطولات التي يشارك بها. يوم ذاك صار أبو مضر يتابع باهتمام أخبار المنتخب ومبارياته، بل ويدلي أحياناً برأيه في مجريات المباراة.
لكنه في الواقع ما أحب كرة القدم، وإنما المنتخب الذي كان يحمل اسم سورية و ألوان علمها.
إضاءات – سعد القاسم