الثورة أون لاين – فؤاد مسعد:
ستة أيام كانت كافية للمخرج علي الماغوط كي يرسم عبر كاميرته ملحمة تعج بتفاصيل نابضة بالحياة ومعجونة بالروح ، هذه المدة التي استغرقتها عمليات تصوير فيلم (الرحلة 17) بكل ما فيه من تنوع لأماكن التصوير لم تأت من فراغ وإنما جاءت نتيجة لمتابعة حثيثة من المخرج ودراسة معمّقة وتخطيط مُسبق لأدق الأمور ورسم كامل للصورة دون أن يترك شيئاً للمصادفة أو للمجهول ، فكان مدركاً لما يريد بدقة وساعياً إلى هدفه بحرفية ولدى التنفيذ لم يتبقَ أمامه سوى ترجمة ما تم تحضيره عبر الكاميرا فحقق الفيلم خلال وقت قصير لأن كل الأمور كانت واضحة في تفكيره من زوايا التصوير وتشكيل الكادر والاعتناء بتفاصيل الأماكن التي تم التصوير فيها ، إضافة إلى الروح التي بدا عليها الممثلون ، والإيقاع العام للعمل بما فيه مشاهد المعارك التي جاءت مُقنعة إلى حد بعيد انتصر فيها للواقع مبتعداً عن التكلّف والاصطناع فامتزج فيها الإنساني والوجداني مع روح البطولة والتضحية.
تناول فيلم الديكودراما (الرحلة 17) أحداثاً حقيقية جرت بدايات عام ٢٠١٣ ضمن كتيبة تابعة لقيادة الفرقة 17 والحصار الخانق الذي فرضه انتشار المسلحين في محافظة الرقة ، مظهراً صورة عن بطولات الجيش العربي السوري ومُبرزاً حجم ما يقدمه من تضحيات ليمنح الحياة حياة ، راصداً قدرة أفراد الكتيبة على الصمود ومقارعة المسلحين وصد هجماتهم ، وكيف كان أفرادها مع قائدهم يداً واحدة مسلطاً الضوء على حكاية ضابط وصديقه أصيبا وكانت إصابة أحدهما خطيرة أدت إلى بتر يده وقدميه ليتحول إلى شهيد حي ، فسعى قائد الكتيبة إلى تأمين نقلهما إلى أقرب نقطة عسكرية للجيش العربي السوري خارج الرقة عبر رحلة كانت محفوفة بالمخاطر .
قُدِم الفيلم وفق بناء درامي وسيناريو مُحكم للأحداث راعى الكثير من الجوانب التي سعى إلى إظهارها واستعارتها من الواقع الحقيقي ونقلها بنبضها الحي ، قدم جنوداً لم يكونوا أبطالاً شجعانا فقط وإنما هم شخصيات من لحم ودم بكل ما فيها من وروح ممتلئة بالإنسانية.. فالجندي الذي يقاتل بشجاعة قد يستل من الزمن لحظات يحلم فيها ويغني ويضحك ويضفي جواً من المرح حتى في أحلك اللحظات ، كما أن اليد التي تعزف لحن الانتصار والبسالة عبر البندقية هي نفسها قادرة على عزف لحن الحياة عبر أوتار آلة العود ، لقد كانوا أبطالاً في كل شيء ، في عنفوانهم وشموخهم وإنسانيتهم وسموّهم فوق الجراح والكثير من الصغائر لأن الوطن أكبر وأغلى ، ولعل من أهم ما ميّز الفيلم اعتماده على رواية أشخاص حقيقيين ملتقطاً لحظات هامة من حياتهم مازجاً الخاص مع العام ، موثقاً المشاهد الدرامية عبر حضور الأشخاص الحقيقيين ضمن الفيلم يروون ويعلقون على الأحداث ، هي حالة تشبيك وتعشيق بين الحكايات الحقيقية وآلية تقديمها بإطار مؤثر على الشاشة .
يعتبر الفيلم تجربة سينمائية صاغت مفرداتها من عمق الواقع بتكثيف عالٍ ، التقط المخرج ما يخدم فكرته منها ليقدمه بصيغة تُظهر حقيقة ما جرى ضمن إطار يرقى إلى مستوى الوثيقة ، منطلقاً من رؤى عمد من خلالها إلى إظهار الفيلم بشكل مُغاير ، فجاءت كاميرته تارة مقتحمة وتارة ترصد التفاصيل الإنسانية وتلاحق الوجع وتارة ثالثة تراقب ملتقطة روح المشهد ناقلة من خلاله نبض الإحساس ، واستطاع جعل المشاهد يعيش مع أبطال الكتيبة لحظات وجدانية تزيد من مصداقية ما يقدم فتشده وتجعله في قلب الحدث متأثراً به ، يعيشه معه بكل خفقة قلب وكل قطرة دم ، مقدماً بذلك اقتراحاً سينمائياً مختلفاً حتى على صعيد التمثيل ، فكان كل ممثل في مكانه متشبعاً من شخصيته يقدمها من عمق روحه بما تضج به من إحساس وحياة وألم ، وذهب الفنانون في أدائهم للشخصيات إلى أبعد من فكرة تجسيد الدور بحرفية تحت إدارة مخرج يحرض ما بداخلهم ، ليعيشوا حالة أكثر عمقاً وتأصلاً تتعلق بتبني وشغف شخصيات يقدمونها بكل خلجة من خلجاتها ، فامتلك كل منهم قدرة عالية على إيصال العوالم الداخلية والتعبير عنها بإحساس عالٍ.