بالأمس كانت لي فرصة حضور عرضٍ مسرحي تجريبي (بروفة) لممثل قدير يعتبر من فرسان المسرح المتميزين.. وهو الفنان الملتزم (محمد صبحي) الذي عرفناه من خلال أعماله المسرحية، والسينمائية، والتلفزيونية الكثيرة، والمتنوعة. ورسخت في ذواكرنا أعماله الفنية التي تنتصر لقيم الحق، كما للحق العربي.. كذلك تعرفنا إليه كعاشقٍ لسورية بأرضها، وناسها، لاسيما أن رائد المسرح العربي (أبو خليل القباني) قد انطلق منها ليكون أول مَنْ أسس مسرحاً عربياً، بدأ في دمشق ثم انتقل منها فيما بعد إلى أرض الكنانة.
وتتدفق في ذاكرتي مشاهد من المسلسل التاريخي الذي تناول قضية الصراع العربي الإسرائيلي (فارس بلا جواد)، وأثار في حينه عاصفةً في الكيان الإسرائيلي، وجدلٍ لم ينته حول جواز عرض المسلسل، أو إيقافه، إلى أن تم حذف مشاهد منه ليعاد عرضه كاملاً منذ وقت قريب عبر شبكة المعلومات.. وأذكر جيداً كيف كان (صبحي) يفاخر بأن عمله التلفزيوني هذا قد تم تصويره في (تدمر) السورية، أرض الأصالة، والتاريخ، والفنان لا يوفر فرصة إلا ويؤكد من خلالها ذلك الرابط الخفي من انتماء العروبة الذي نسج خيوطاً من الحب بينه وبين أرض الشام.. وجعل ذكرى تلك الأوقات عالقة في ذهنه تلتمع كصفحات من ذهب.. ليعترف عاشق سورية هذا أنه كلما باعد الوقت بينه وبينها تمنى العودة إليها.
إن الفنان الحقيقي هو ذلك الذي يخلص لقضايا أمته، ووطنه، ويتمسك بكل قيمة تعزز مفهوم الهوية، والانتماء، لكنه في الوقت نفسه يخلص لفنه أولاً حتى يستطيع أن يصل إلى جماهيره كما يجب عليه أن يفعل، فالشهرة ما لم تقم على أسس ثابتة تحولت إلى فقاعة صابون سرعان ما تنفجر، وتتبدد.
في ذلك العرض المسرحي التجريبي الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات، كنت أقف مذهولة أمام إخلاص (صبحي) لفنه، وحرصه على دقة الأداء المسرحي، خاصة أن الممثلين أغلبهم من جيل الشباب الذي يخوض مغامرته حديثة العهد مع خشبة المسرح.. فما بالنا إذا عرفنا أن هذا الفنان صاحب التجربة العريضة هو الأستاذ المعلم في الوقت نفسه، وهو المدرِّب، والمخرج، والقائم على كل تفاصيل العمل ليكتمل المشهد من حيث إتقان الممثلين لأدوراهم، ومن حيث الديكور، والإضاءة، والأزياء، والاكسسوارات، والمكياج، والموسيقى التي تنقل المعنى والأحاسيس إلى المتلقي، وتزامن إيقاع عناصر العمل مجتمعة بدقة.. بل إنه يكتمل فعلاً بالحرص على تفاصيله الدقيقة التي لا تغيب عن المخرج الذي هو بالأساس ممثل يشعر بنبض المسرح كما نبضات قلبه. و(محمد صبحي) قد خبر على مدى عقود لعبة المسرح فأتقنها، وكذلك حاله مع السينما، ومع الدراما التلفزيونية حتى اكتملت تجربته الفنية، والإنسانية بآنٍ معاً.
وها نحن في الألفية الثالثة وقد دخلت إلى المسرح التقنيات الحديثة باعتبارها عناصر مساعدة جديدة كالشاشات، وأجهزة الصوت المتطورة، والآلات التي تخدم الاستعراضات، وتغيير الديكورات، وأجهزة الإضاءة الحديثة التي تحقق بعداً ثالثاً يراه المتفرج على الخشبة بما يعزز جمالية المشهد، وغير ذلك مما يجعل متعة الفرجة لدى الجمهور تكتمل وقد احتملت فضاءً تأويلياً.. إلا أن المسرح الجيد ليس إبهاراً بصرياً فقط، ولا أداءً تمثيلياً، ولا موسيقى تعبيرية، بل هو النص المسرحي في المقام الأول الذي تخدمه باقي العناصر مجتمعة.
وها هي (الكوميديا) السوداء تستأثر بمسرح (صبحي) الذي يبادر إلى موضوعات الساعة نتيجة سواد المرحلة التي يمر بها العالم العربي، وهو الذي اعتُبر من أكثر الفنانين العرب التزاماً، والتصاقاً بقضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لتنطلق الضحكة من قلب الدمعة، فما يجري في بلد عربي الآن يجري في آخر شقيق له، بينما المؤامرات تحاك بدهاء في الخفاء ضد هذا، وذاك.. وموضوعات الحرب، والعنف، والإرهاب، والجريمة، والعدوان، والفساد، وتدمير بيئة الأرض، وما يجري على الساحات كلها موضوعات تنتظر أقلام المؤلفين لتظهر إلى المشاهد كشاهدة على أحداث جسام مرت فتركت ندباتها على وجوه الناس.. ومَنْ أقدر من الفن على مقاربتها، وتسليط الضوء عليها؟ لكنها لم تنتظر في مسرح (صبحي) لتعرض واقعاً جديداً أصبحنا جميعاً نعيشه، ونعاني منه.
إن ما يؤلمنا قد يدفعنا بلحظة ما لأن نضحك.. لكنه ضحك كالبكاء، أو بكاء كالضحك نطلق له العنان، وقضية وطنٍ في منطقتنا العربية هي قضية كل الأوطان.. وخشبة مسرح (صبحي) تنتظر عرض مسرحية جديدة لا تكون كوميديا سوداء بقدر ما ستكون بقعة ضوء في ليلة ظلماء. ولا شك أن ساحة أي الفن تنفتح واسعةً على كل الفضاءات في المسرح، والسينما، والتلفزيون، والفن التشكيلي، والموسيقى، والغناء، وصولاً إلى صفحات الأدب.
إضاءات – لينـــــــا كيـــــــــــــلاني