الثورة أون لاين – علي الأحمد :
من البديهي أن يكون مسير هذه الحياة الموسيقية المعاصرة، نحو أفق ومناخات مغايرة، لما كانت عليه في أزمنة الإبداع الخالدة، فطُرق الكتابة والتأليف والممارسة أصبحت أكثر حداثة ومواكبة للعصر، وهو مافرض أيضاً مسارات وتحولات عميقة في مجالات التذوق والتلقي، المرتبط بإيقاعية هذا العصر الصاخب واللاهث دوماً نحو تفكيك وهدم المنظومة القديمة للتذوق الرصين والاستماع الواعي حيث الموسيقى تُكتب وتؤَلف خصيصاً لتلك الحاسة السمعية وحدها، حتى وإن جاءت في بعض الأحيان ضمن مسارات الفنون البصرية كالمسرح الغنائي والسينما الغنائية التي سادت بدايات القرن الماضي، حيث بقيت هذه الفنون وفيّة لموروث التلقي والاستماع الرصين المهذب، الذي كتب عنه قبل مئات السنين،الفيلسوف أبوحامد الغزالي، وغيره من فلاسفة وعلماء.
-إذاً، لابد من وضع الأمور في نصابها الصحيح،خاصة لدى فنٍ زمني بإمتياز، يتحرك دائماً الى الأمام، بما يتماشى مع روحية ومزاج العصر الذي هو فيه، وهو مايعبر عنه الواقع الموسيقي الذي نحياه، والذي تتبدل فيه قضايا ودور هذا الفن، نحو الانعتاق والتخفف من ثقل ووطأة الموروث الطربي الذي كان سائداً، والذي كان يتطلب جهداً معرفياً بأسرار الصنعة الموسيقية وبطرق وتقاليد الغناء العربي،أما نتاجات اليوم الموسيقية، فأغلبها يعتمد على الإبهار والاستسهال بمساعدة التكنولوجيا ووسائطها المتعددة، التي تفعل العَجب العُجاب في ذائقة الأجيال، التي تستقبل هذه النتاجات بعينها المبهورة بفتنة الصورة والتي لاتخلو من الإباحية وإيقاظ الغرائز المكبوتة، في حين تنعدم النتاجات التي تُكتب للإذن المنصتة، وكأن هذا الإرث السمعي أضحى في هذا العصر عبئاً ثقيلا على الموسيقي المعاصر، بحجة التخلي عن مفهوم الطرب وطقوسه السمع بصرية التي لازمته والتصقت به منذ آلاف السنين.
– كل ذلك جعل من الحياة الموسيقية المعاصرة – وهذا في كل موسيقات الشعوب-تغص بالأدعياء والمهرجين تتحكم فيهم مجموعة من الدجالين وأصحاب الضمائر الفاسدة، ممن يمتلكون المال الأسود عبر شركات الانتاج الفني والمنصات الإعلامية التي تحولت الى سوق نخاسة جديد، بعروضه المجانية من نتاجات الرداءة والانحطاط التربوي والأخلاقي، حيث لادور ورسالة لهذا الفن، إلا الاستهلاك السفيه ومزجاة الوقت عبر آلاف الأعمال التي تنتج بميكانيكية عجيبة، لفنٍ موسيقي أصيل، كان الى وقت قريب مدعاة للفرح والأمل والمسرّة. وهذا مايؤكد على أن تغييب التربية الجمالية لأسباب معلومة، ترك فراغاً وهوّة عميقة في مجالات تذوق الأعمال الكلاسيكية العظيمة في كل الموسيقات، حيث لم يجد الجيل الحالي إلا بديل هذه الأعمال الخالدة، نتاجات ومنتوج التكنولوجيا الخالية من الإحساس والجمال التعبيري، الموجه أصلا لهذه الفئة العمرية حيث تقدم لها هذه الأعمال على أنها المعيار الأوحد للتحضر ومواكبة العصر، عبر العزف على وتر الغرائز المنحطة، التي لاتكاد يخلو منها أغلب هذا المنتوج الذي يفصح بشكل كبير عن مدى الضحالة والخواء الإبداعي لتجار هذا الفن في إلفيته الثالثة، الذين لايعلم المرء كيف وصلوا الى أمكنتهم هذه خلسة على رؤوس أموالهم القذرة، ليعيثوا فساداً وخراباً في ذائقة الأجيال، ولاعزاء للفن الأصيل الذي ملأ حياتنا بهجة وفرح وأمل بغدٍ مشرق وحياة أكثر من ممكنة .