بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومة الكتلة الشيوعية، رأى المفكرون والفلاسفة الغربيون أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً أميركياً وبامتياز، وتعززت هذه الرؤية بعد الهجوم الأميركي على أفغانستان كمقدمة للمضي في أكذوبة الحرب على الإرهاب، وما رافقها من حشد وتأييد ودعم دولي كبير للولايات المتحدة الأميركية في مشروعها ذاك.
وبعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على تفكك الاتحاد السوفياتي، ومضي عقدين على غزو أفغانستان يثبت للعالم سقوط تلك النظرية وخطأ تلك الرؤية الفلسفية والسياسية في آن واحد، فهل هو القرن الأميركي الموعود، أم هو عصر الأفول العالمي والتراجع الاستعماري للهيمنة الأميركية وقوتها المتغطرسة؟
لا يعني هذا التساؤل أن واشنطن غدت أو ستغدو دولة ضعيفة ما بين ليلة وضحاها، ولا يعني أنها سوف تتحول إلى دولة ملحقة بمعسكر الغرب أو تابعة له، أو أن اقتصادها وقوتها العسكرية ستتراجع إلى مصاف الدول الصغيرة، ولا يعني أنها ستخرج من دائرة التأثير والفعل الدوليين، ولكن المقصود من هذا التساؤل أنها لن تبقى في مكانتها الحالية، ولن تقوى على الاستمرار في سياستها التي أعلنت عنها، ولا المضي في استراتيجية الهيمنة كما شهدها العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعامة أو بعد انهيار المنظومة الاشتراكية بخاصة بداية العقد الأخير من القرن الماضي.
الوقائع والأحداث تشير إلى تراجع وانحسار واضحين لتوسع أقوى وأكبر امبراطورية شهدها التاريخ وأضخم قوة عسكرية واقتصادية على مر العصور، فهي لم تعد قادرة على التصرف والسلوك وفق ما كانت تقرر في سنوات سابقة، ولم يعد بمقدورها تحريك جيوشها وأساطيلها في جميع أنحاء العالم وفق إرادتها، حتى أنها غير قادرة على الاحتفاظ بقواتها العسكرية في المناطق التي دخلتها.
ولا يغيب عن مراقب عادي الحال العام للقوات الأميركية وهي تغادر أفغانستان مؤخراً في تلك الحالة المهينة دون خطة مدروسة، وحتى دون تنسيق مع حلفائها الأوروبيين ممن شاركوها غزو تلك البلاد قبل عشرين عاماً ليبدأ سيل الاتهامات المتبادلة عن مدى التنسيق واحترام المعاهدات والتوافقات ومدى الالتزام حتى بحقوق الإنسان والحفاظ على المؤيدين والعملاء والأجراء ممن رهنوا أنفسهم للأميركي، ورمى بهم في خانة المجهول، فجاء بذلك الدرس الأفغاني صاعقاً لكل من راهن على قوة مزعومة تنهزم أمام طالبان في خطوة مهزوزة.
وفي وقائع مشابهة وداعمة للفكرة نستعيد القصف الإيراني الدقيق والمركز على القسم الأميركي وحده في قاعدة عين الأسد في العراق رداً على اغتيال واشنطن الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس مطلع العام السابق، وعدم الجرأة على الرد تجنباً لوضع أشد صعوبة وإيلاماً، كما لا يخفى الموقف من مفاوضات الملف النووي الإيراني في داخل المنظمة الدولية للطاقة الذرية وضعف المفاوض الأميركي أمام قوة المفاوض الإيراني.
ثمة حالات متعددة تشير إلى تراجع الامتداد الأميركي وحتمية سحب قواته من الكثير من المناطق وخاصة منطقة الشرق الأوسط، فبعد أفغانستان بدأت عملية انسحاب مدروسة من العراق وسيأتي الدور على قواتها المتواجدة في سورية بطريقة غير مشروعة كلياً وسيبدأ عصر التراجع الكبير عن منطقة وسط العالم، لتتركز تلك القوات باتجاه الشرق الأقصى ومنطقة البحر الأصفر وبحر الصين ومناطق المحيطين الهادئ والهندي بانتظار مواجهات دولية جديدة ستكون الصين الهدف منها، وذلك ما سيضع العالم أمام تحولات جديدة قد تحمل معها النهاية الموعودة لأسوأ إمبراطورية شهدها التاريخ.
معاً على الطريق- مصطفى المقداد