الملحق الثقافي:إلهام سلطان:
ما رحلوا وما غابوا، بل ظلّوا بين الرسومات والمنحوتات، وفي ذاكرة الإبداع، وذاكرة الإنسانيّة.. ظلّوا حكايا لا تنتهي ألوانها، ولا يبهتْ جمالها أو يزول عنفوانها..
نعم، هم لم يرحلوا، فالعظماء لا يرحلون لانهم يتركون أثراً خالداً في وطنهم، وفي ذاكرة التاريخ.. يبقون وشماً يجمّل حياة أبناء شعبهم، وصحوة تجدل ضفائر الشمس، وتلوّن ذاكرة الصباح.
من هؤلاء العظماء، الفنان النحّات الذي رحل مؤخراً «فؤاد أبو عساف». عاشق البازلت الذي استطاع بفكره وعقله، وأنامله الساحرة وخياله الخصب، أن يحوّل حجر البازلت الأسود الأصم، إلى ملاحم وإشراقات، تنطق بحكايا التاريخ، تضحيات الشهداء والمرأة والحبّ والبحر والأساطير، وعبارات الإنسانية ووجع الروح، وقهر الحرب وقصص وطنٍ، امتلأت ذاكرته بإبداعات لم ولن تنتهي..
عشقته هذه المنحوتات فاحتضنها، لتعود وتحتضنه بين ضفتيها، غافياً على جدران عتباتها بأمانِ النبضِ الذي أسراه فيها فأحياها أبدا.. نحت على أنحائها ببصماته القرمزية، كلّ جمال الحياة الذي وهبها إياه، إلى أن توسّدها ليبقَ يسمع حكايا كلّ ذرّة من تراب وطنه..
توسّدها حبّاً أبى أن يغادره، فدثّرته بشغفِ طينها، وجذور سنديانها، ونثرت حوله سنبلاتٌ الخير التي نمتْ في منحوتاته، دون أن تنحني إلا لأمها الأرض السورية.
بالتأكيد، المبدعون لا يرحلون، يبقى ذكرهم وإبداعهم.. تبقى أناملهم تضيء وتورث نورها، لأجيالٍ وأجيال من عشاق الجمال، وأبناء لونه وحجره وفنونه.
أخيراً :توقّف جهاز تخطيط القلب عن رسم مساراته، وعاد إلى سكونه الرهيب، وصمته القاتل. همدت تكّاته، فهمدَ نبضُ القلب المتعب، وتوقف عن الخفقان. القلب الذي كان يراقص الحجر بحبّ، والذي كان يحادثه وينصت للحكايا التي ليس لها حدّ.. همدت اليد التي ما عرفت التعب يوماً، بل كانت مع كلّ إشراقة صباحٍ، توقظُ الصمت في حجارةٍ أرضٍ، لا تغيب عنها الشمس، فتحيلها إلى منحوتاتٍ ساحرة وناطقة، تجسد الحضارة السورية والفكر الإنساني.
ترك منحوتاته وتماثيله حزينة، متشحة بالسواد وغادر بأمانِ روحها. فارقها ولم يفارق الأرض والشمس والغيم، وكلّ الفصول التي ستبقى تتوالى في سردها للأرقى والأحلى والأبقى.
رحل في ليلةٍ خريفية حزينة، تودع الأوراق فيها أغصانها.. تتساقط لتعود وتتغلغل بين ذرات التراب، كما عاشق هذه الذرات تماماً.
ترك لنا سنابل من العطاء، حيث كانت حبة القمح أيقونته، والمحبة دينه، ونوارس البحر محرابه، والمرأة عالمه، واليمامات مفرداته، والوجوه المتعبة ضآلته، ولم ينتهِ طوفان إبداعه، بل استقرَّ في سفينته، جاعلاً من الشهداء أيقونته، ومن دمشق آيته.. وعلى ايقاع العشاء الأخير، طوى آخر صفحة من صفحات عمره ونام..
نمْ بأمانٍ أيّها الباشق الذي لا يغيب، اليوم أسدل الليل خماره على إغماضتك الأخيرة، وطواك بين جناحيه قصيدة، بترانيمٍ ملائكية حزينة.. رمى على سرير الغياب، أحرف من تراتيل إبداعك، التي تدثرت بعبقٍ من عطر البازلت، الذي سيبقى يعزف موسيقا التوق بألمٍ لا يغادر.
بطاقة ذاتية:
الفنان والنحات «فؤاد أبو عساف» من مواليد بلدة سليم – محافظة السويداء، عام 1966، تخرج من كلية الفنون الجميلة – قسم النحت عام 1991، ودرّس فيها، وله عشرات المنحوتات، منها النصب الموجودة في كلية الحقوق بعنوان :»شهداء الطلبة»، و»المرأة السورية في المنطقة الجنوبية»، و»العشاء الأخير».
أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة، ومجموعات خاصة داخل وخارج سورية «الدنمارك، بلجيكا، البرتغال، سويسرا، ألمانيا، فرنسا، أميركا، الكويت، الامارات العربية المتحدة، لبنان- الأردن، البحرين»..
التاريخ: الثلاثاء28-9-2021
رقم العدد :1065