يبدو أن أسعار السلع والخدمات دخلت مرحلة الانفلات الكامل من عقالها، فلا رادع يضبطها ولا رقيب يحد من طغيانها، ولا حسيب يصدّ أولئك الذين ينتهكون المنطق والأعراف فيتلاعبون ويلعبون كيفما يحلو لهم بلا حَكَمٍ ولا قانون ولا نظام، بطريقة فوضوية بات من الصعب ضبطها، ولاسيما في ظل غياب حكومي مقيت، أو عجزٍ معيب وعدم اكتراث غير معقول.
في هذه الأيام ينشغل الساحل السوري، والعديد من المناطق الأخرى بقطاف الزيتون، وقد أدْهَشَتْ المنتجين أجور عصر صفيحة الزيت (أو البيدون – 20 ليتر) حيث قفزت هذه الأجرة من نحو خمسة آلاف في العام الماضي إلى 12 وحتى 15 ألف ليرة هذا العام، أي من ينتج عشرة صفائح سيدفع عليها نحو150 ألف ليرة كأجور عصر، ومن ينتج 20 صفيحة سيدفع 300 ألف.. وهكذا..
هذا انفلات غير معقول، وتلاعب من المعاصر، لأن هذه المعاصر لو رضيت بألف ليرة على عصر البيدون لكانت رابحة إلى حدّ كبير، بل لو أنها عصرت للمنتجين مجاناً لكانت حققت المزيد من الأرباح، لأنها تحتفظ لنفسها بالعرجون كله دون أن تدفع ثمنه للمنتجين، والعرجون- في هذه الأيام خاصة – من أفضل أنواع الوقود لمدافئ الحطب، كما يمكن تصنيع قطع الفحم منه للأراكيل، وهي باتت منتشرة إلى حد كبير، ما يعني زيادة الطلب على ذلك الفحم وضمان تسويقه.
كما تستفيد المعاصر جراء عصر الزيتون – ومجاناً دون أي تكاليف – من ماء الجفت الذي يستخدم على نطاق واسع كسماد عضوي، وفيه الكثير من العناصر المرغوبة لدى المزارعين من أجل تحسين تربة أرضهم، ففي هذا الماء عناصر من الحديد والزنك والمغنيزيوم، وهذا يعني أن المعاصر لا تخشى تسويق أطنان الجفت الناجم عن عملية عصر الزيتون.
وتستفيد المعاصر أيضاً من (المهل) أو وحل الزيت الذي يستخدم في صناعة الصابون.
المنتجون بدورهم لم يمرروا دهشتهم من ارتفاع أجور العصر هكذا عبثاً، فضربوا أخماسهم بأسداسهم وقرروا أن يحيلوا الدهشة إلينا كمستهلكين، من خلال رفع صفيحة الزيت أو البيدون الذي تراوح سعره في العام الماضي من 120 ألف إلى 150 ألف ليرة، والرفع الجديد لم يستقرّ بعد، غير أن الحد الأدنى المتفق عليه الآن 200 ألف ليرة للبيدون الواحد، والبعض بدأ يصعد بالترويج إلى استقرار السعر على 250 ألف ليرة للبيدون.
لا رحمة من أحد على ما يبدو علينا نحن معشر المستهلكين فكل هذه الزيادات المتسلسلة وغيرها من زيادات أسعار السلع والمواد تصبّ شفّاطاتها بالنهاية في جيوبنا الخاوية أصلاً، وبالتالي لا بد من مواجهة الحرمان عند الكثيرين غير القادرين على مجاراة هذه الأسعار، لتتفاقم عندهم بعد ذلك حالة سوء التغذية التي صار العديد من الأطباء يلاحظون سعة انتشارها.
ووسط هذا الزحام من الجَور والتلاعب المدهش وفقدان الضمير ما تزال الحكومة (تُشدد) على مراقبة الأسعار والأسواق، ولكن -طبعاً- دون أن تفعل شيئاً.. ولن تفعل ما يبدو.. هذا إن لم تكن لا تريد أن تفعل أصلاً..!.
على الملأ- علي محمود جديد