الثورة أون لاين – فؤاد الوادي:
بضع وستون كلمة فقط، كانت كافية لاقتلاع شعب من أرضه، وإحلال قطعان من الوحوش والمجرمين والقتلة مكانه، بضع وستون كلمة، كان مداد حروفها دماء الشعب الفلسطيني التي ما تزال تسيل حتى اللحظة ثمنا للتشبث بالأرض والحقوق والهوية.
لم يكن وعد بلفور المشؤوم مجرد جريمة عادية فحسب، بل كان ولا يزال وسيبقى جريمة كل العصور، ارتكبتها بريطانيا المستعمرة بحق الشعب الفلسطيني، فقصاصة الورق تلك التي أرسلها آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 إلى اليهودي ليونيل والتر دي روتشيلد وحملت وعداً بإنشاء “وطن” قومي لليهود على أرض فلسطين العربية، لم تكن مجرد رسالة عادية، بل احتوت كلمات كانت سبباً في أكبر معاناة إنسانية عاشها شعب بأكمله في العصر الحديث.
لقد كان وعد بلفور أكبر عملية سطو في التاريخ على شعب وأرض بهدف تغيير مجرى الصراع الدولي وتحويله إلى المنطقة العربية لغايات استعمارية دنيئة، فكان أبشع جريمة على مر العصور، فكيف لدولة مثل بريطانيا لا تملك، أن تبيع أو تمنح أرضاً لها أصحابها الشرعيون لقطعان من الوحوش والإرهابيين مارسوا وما زالوا أبشع أنواع الإرهاب والجرائم بحق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة.
وعد بلفور، وهو ما اصطلح على رسالة أرسلها بلفور عام 1917 إلى أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية اللورد روتشيلد والتي تتضمن تأييد بريطانيا لإنشاء «وطن قومي لليهود في فلسطين»، وتأكيد الرسالة أن بريطانيا “التي تنوي احتلال فلسطين مسبقاً” ستبذل كل جهودها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، وهذا نص وثيقة وعد بلفور النسخة الأصلية الموجهة للحركة الصهيونية: (عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى». وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علماً بهذا التصريح).
وكانت الحكومة البريطانية قد عرضت نص تصريح بلفور على الرئيس الأميركي ولسون، فوافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسمياً سنة 1918، وفي 25 نيسان سنة 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الانتداب، وفي 24 تموز عام 1922 وافق مجلس عصبة الأمم المتحدة على مشروع الانتداب الذي دخل حيز التنفيذ في 29 أيلول 1923، وبذلك يمكننا القول بأن بريطانيا ومعها الغرب الاستعماري والولايات المتحدة الأميركية ارتكبوا جريمة العصر بحق الشعب الفلسطيني بحيث نجم عنها مآس لا تحصى بحق الفلسطينيين من قتل وإبادة وتهجير وتشريد واحتلال وتخريب وتدنيس مقدسات، إضافة إلى نشر الإرهاب والعنف في عموم المنطقة حتى يومنا هذا.
لكن الشعب الفلسطيني لم يستسلم للوعد المشؤوم ولإجراءات وقرارات الاحتلال البريطاني والوقائع العملية التي أخذت الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة بفرضها على الأرض بمساعدة البريطانيين، بل خاض ثورات متلاحقة، كان أولها ثورة البراق عام 1929، ثم تلتها ثورة 1936ولا يزال يقاوم المخططات الصهيونية حتى الآن بانتفاضة تلو الانتفاضة وأعمال مقاومة لم تتوقف يوماً، بالإضافة إلى إحياء ذكرى الوعد المشؤوم بالمظاهرات والفعاليات التي تؤكد العزم على استرجاع حقوقه المشروعة والمسلوبة مهما طال الزمن.
إن تداعيات وعد بلفور المشؤوم لا تزال مستمرة حتى اللحظة وعلى كل شعوب ودول المنطقة، ولاسيما الدول الرافضة والمقاومة للمشروع الصهيو أميركي، خاصة سورية وشعبها العظيم وجيشها البطل، حيث كانت الحرب الإرهابية التي تواجهها سورية منذ نحو عشر سنوات جزءاً من تداعيات هذا الوعد ومفرزاته، بسبب تمسكها بالحق الفلسطيني والعربي ودعمها اللامحدود للنضال الفلسطيني والعربي في مواجهة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين والمنطقة برمتها.