الثورة أون لاين _ ميسون حداد:
رحل صباح فخري بعد أن أترع جمهوره من خمرة الطرب، وأسكر محبي الفن الأصيل من دون كاس، وفي وداع ثمانينه ودّع هذا العالم .. “سيبوني يا ناس أروح مطرح ما روح” وذهب حيث عيشة فيها كل الحب ليتمتع بجدول المياه الهادرة..
ابن مدينة ذوّاقي التراث والقدود، ومختبري الأصوات الرخيمة، يوم كان المطربون يجتازون في بداياتهم الامتحان الأصعب، سمّيعة أهل حلب، ليعطوه جواز السفر إلى عالم الغناء والطرب، ومن حلب إلى كل العالم.
البداية كانت عبر مدرسة الإنشاد والتجويد، حيث تُدرّس الأصالة بكل أبعادها، من الكلمة إلى اللحن فالأداء حيث تتجلى رخامة الصوت، وترك لنا إرثاً دينياً بصوته بدءاً بأسماء الله الحسنى، إلى العديد من الأناشيد التي تحرك القلب والوجدان في الشهر الفضيل وتسمو بالسامع إلى العلياء.
كان ينحو إلى شيء من الصوفية، فتسمع في بعض الأغاني طرباً أو صلاة أو مناجاة، “اسق العطاش تكرماً” فتخال نفسك وأنت تستمع وكأنك تدور مع أصحاب الطريقة رافعاً يديك وقلبك إلى العلاء، وكان هو نفسه أحياناً تأخذه نشوة الطرب إلى رقصة يجمع فيها خطوات الصوفية المتأنية إلى انبعاث الفرح والتهليل، رقصة أصبحت خاصة به.
هذا العملاق بإمكاناته الصوتية جاد على المسرح واسترسل في الغناء لمدة تزيد على 10 ساعات متواصلة، فدخل موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية، هذا الجوّاد جاد بإمكانات استثنائية فوصل إلى الجمهور العالمي وتربع سلطاناً بلا منافس.
ابن حلب اختار مدينة الياسمين لينطلق منها إلى كل العالم، واستطاع أن يستوطن وجدان وذاكرة السوريين خصوصاً ومحبي الطرب الأصيل عموماً، وحضر بصوته وأغانيه في تفاصيل حياتهم، في أفراحهم، أتراحهم، مناسباتهم.
أذكر عن عائلتي، ومثلنا كثيرون، في بيتنا، عندما تجتمع العائلة وما أكثر جمعات أيام زمان، كان والدي يمتشق عوده ويطرب الجميع بالساعات بأغاني صباح فخري رافضاً الغناء لأحد آخر إلا “وديع”، وما زال اليوم وبشكل تلقائي في كل جمعة عائلية، يصدح صوت صباح فخري في مناسباتنا وكأنه تقليد مقدس.
البلبل ناغى المقامات الأعلى، فلّوع قلوب محبيه، وأمست على الدنيا إذ غاب وحشة، وترك لنا أن نصله أسوة بعشاق الفن ونوادر أصالة الطرب.