الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:
أتيتُ إلى الدنيا بنعشٍ، محنّطة، تحملني روحي حيث كنتُ مع فراشاتِ الحقل البعيد… كأنّ الروح ما زالت تسكن براءتي، ولا يخدش هدأتها تعبي.
حاولتُ مرّة أن أموت، وحاولتُ في مرّةٍ أخرى، أن أنتزع الشروق من وجه أبي، وهو يراقبُ عبور الأقدام الصغيرة، من أمام حديقة بيتنا.
كان للمسافة بين الوجدان والعقل، سحرها الخاص، سرعان ما يمتلئ هذا الوميض بعبقِ الأنثى وتجلّياتها، يقلب العقل ويبعده، ينتشي بسحرِ الأشياء أو كليهما، يخلّف خدراً، يُضفي على مروجِ تنهّداتي، عذوبة حنانٍ مفقود، ونشوة اللحظةِ التي أشعر فيها بتوحّدي مع حواسي، وانصهارها مع جرحي، مثلما مع الطريق الطويل!.
ضباب الصباح، يُعاندُ في مكاشفةٍ تنزُّ، أراني خجلة من كلّ ما يمكن أن أسمّيه ضعفاً، أو انكساراً يقودني إلى نهايتي المفترضة، وفق العادات والتقاليد.
في معاهدةٍ مع القدر الذي اختارني لهذا الاحتراق، المعاهدة التي قبلتُ فيها معركة الثأر والانتحار.. لم يكن الزواج هو الطريق الأسهل، ليمتلكني ذاك الذي كنتُ أنتظره، على جناحِ فراشات الحقل وحلمي.
طردته عندما تقدّم لخطبتي، ولم يعترض والدي على سوءِ تصرفي، كان همّه أن يراني بخير، بعد أن تماثلتُ للشفاءِ من انهيارٍ عصبي، عانيتُ منه لأيامٍ بعد تلك الحادثة.
منذ ذلك اليوم، وأنا أُدفئ جدران البيت بأنفاسي، أذرف عرقَ جبيني وأنا أبني مجدي، أخطف نظرة من أمسي، وبضع كليماتٍ من سماءٍ لم تُسعفني، أكتبها في الهواء وأنا أزفرُ كرعدِ الغيم المدمّى بثأري.
لو أستطيعُ القول أكثر..
الوقت بين الممكن والمستحيل، ما زال يجعلني أصفقُ الأبواب في وجهِ الأمنيات.
الحبّ كثيرٌ وغزير، يشبه مطر كانون في ذاك اليوم، ويشبه قلبي، لكنّ السكين استوطنت الجسد، وطاب لها المقام.
قرأتُ كلّ ذلك في بعضِ أوراقها المبعثرة على طاولةٍ مجاورة، لسريرها الوثير.
صَحَتْ من غفوتها.
كنتُ جانبها، أتأمّلها في ذهولٍ, أحدّث نفسي: كم أخطـأنا في اعتقادنا، أنها الأضعف بيننا، لهروبها الدائم من مسؤولية الزواج والأولاد، وهي صاحبة الجمال، والمال، والقرار..
ابتسمتْ، وسألتني: كيف أولادك؟.
قلت: ما هذا الذي قرأته!!
قالت: يا عزيزتي، هذه مقدّمة لروايتي الجديدة.
ففي أوّل ليلة خرجت فيها من المشفى، زارتني العنقاء، وأعادت لي صوتي المخنوق بداخلي، منذ أن فتح الموت فاهه لاستقبالي في ذاك اليوم العصيب، وهذه أنا أمامك بكلّ قوّتي، بعد أن هربتُ من مراسم ذاك الدفن البعيد، رغم موتي المتكرّر على مدار الساعة، عبر تلك السنوات الطويلة، التي توّجها القدر – اليوم – باستئصالِ الرحم.. لذا، حان وقت الكلام، وقول الحقيقة!!
دعينا نحتسي القهوة بفناجينِ الورد أولاً، ثمّ نتابعُ التغريد..
التاريخ: الثلاثاء23-11-2021
رقم العدد :1073