الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
مفهومٌ ومألوفٌ ومنطقيّ، أن يتمنّى المرء لنفسه الأفضل في كلّ مجال وكلّ حين، وأن يسعى إلى أن يتحقّق ذلك، بأيسر السبل، وبأسرع ما يمكن؛ وإن كان هذا عصيّاً- وهو يعرف هذا- إن لم يكن مستحيلاً؛ وجميل ومحبّب ومُرضٍ للنفس والآخرين، أن يتمنّى الإنسان الأفضل للآخرين، وأن يساعد في أن يحصل هذا، بما يستطيع، ولمن يستطيع.. (مع أنّ هناك كائنات، تضمر الشرّ لسواها، وإن كانوا أقرباء في الدمّ والسكن والشكل والمعيش والمصير، وتستدعيه، وتقوم به؛ كما تفرح لخراب الوطن، وتهلّل لاستهدافه المدمّر، وتسهم في إذكاء نيرانه؛ ولهؤلاء تقييم مختلف، وخطاب مغاير؛ ولهم من التصوّرات والمشاعر والحسابات والمواقف ما يستحقّون!)، ومع ذلك لا تكون النتائج هي الأفضل، في أغلب الأحيان، لا للذات، ولا للآخرين؛ وهذا أيضاً متوقّع ومنتظر؛ لأنّ المستويات والإمكانيّات الفرديّة والجمعيّة تتفاوت، والظروف تختلف، والمعطيات تتباين، وبالرغم من ذلك، قد نحسّ بالصدمة، ونشقى، ونبتئس، ونكتئب.. وتختلف الحالة بين شخص وآخر، وبين وقت وآخر للشخص نفسه.. ويكون ردّ الفعل هذا أقسى وأصعب وأمرّ، إذا ما بالغنا في التكهّن والتوقّع والأمل، حتّى لنعيش أحياناً في ما يشبه أحلام يقظة! ولكنّ نظرة واقعيّة إلى ما حولنا، وفي ما كان، وما صار، ويكون، تجعلنا نتلقّى ما يحدث، بأقلّ الخسائر، ونكون مستعدّين له، مجهّزين الحلّ أو الحلول البديلة، أو المعدّلة، عاملين على تجاوز الأخطاء، وتحسين المعطيات والشروط؛ وصولاً إلى ما هو أفضل، وليس هو الأفضل بالضرورة؛ هذا الذي يبقى مشروعاً قائماً، ويستمرّ مسعانا إليه حثيثاً.
وطبيعيّ أن ينسحب الأمر على مختلف المجالات والأشخاص، وفي مختلف المواقع والأوقات؛ كما يتّصل الموضوع بجميع الهيئات والمؤسّسات والتنظيمات والتجمّعات والبيئات؛ وصولاً إلى- أو انطلاقاً من- الوطن، والعالم؛ مروراً بالسكن والعمل والوظيفة ومختلف البيئات القريبة والبعيدة، تلك التي تعنينا بصورة مباشرة أو غير مباشرة.. لكنّ أحوال هذه الموائل المختلفة، وكائناتها المتنوّعة، ليست الأفضل، ولن تكون؛ مع الفروق الموضوعيّة، والاختلافات الجوهريّة بينها، وكثيراً ما يكون من يسعى إلى تحسين واقعه الحسن في الحيّز نفسه، أو في أحياز أخرى؛ في حين يجهد آخر إلى الحصول على الحدّ الأدنى لإمكانيّات الاستمرار في الحياة؛ ناهيك عن العمل المطّرد على التطوير والتجميل والتيسير، والسباق الغريزيّ والواعي، الذاتيّ والمتعدّد، إلى الأسرع والأعمق والأعلى؛ هذا الذي لا يتوقّف في مضمار ليس له نهاية!
ومع أنّنا نرى، ويُفترض أن نعي هذه الاحتمالات المفتوحة، والأمنيات المستحيلة، ونتفهّم حضورها ووقعها وانعكاساتها على الجميع، فإنّنا نتجاهلها أحياناً، أو نتجاوزها ونهملها، ونكابر في علمنا ومعرفتنا وتجربتنا وملاحظاتنا، وننظر إلى كلّ شيء نظرة مثاليّة خياليّة، ونتوهّم إمكانيّات، وظروفاً، وأقداراً، ومصادفات، ومعجزات، تجعل المستحيل قيد التحقّق؛ مع عدم ادّعائي، وعدم قناعتي بأنّ كلّ شيء في الكون منظور ومنتظم ومعروف ومفهوم ومحسوب، أو يمكن الوصول إليه، ومن ثمّ هناك حالات، وقوى، ووقائع، وتهيّؤات خارجة عن قدرة الكائن البشريّ على الاحتساب والتقدير؛ بل حتّى قدرته على التصوّر أو الاحتمال!.. لكنّ هذا يُفترض ألّا يدفعنا إلى أن نتوقّع المثاليّ، ونراهن عليه، ونتّهِم الآخرين بالتقصير عن بلوغه في شؤون تفيدنا، أو في الشأن العام، ونحاسِب سوانا، وليس نحن، وإن كان نظريّاً، على أساسه.. لكنّنا في أحاديثنا وحواراتنا وربّما في أفكارنا، نجنح إلى هذا؛ والغريب أنّنا نُفاجَأ، ونُصاب بالصدمة، والأذى، إذا لم تتحقّق رغباتنا، وأنّنا نتناول الآخرين بالانتقاد ونقيّمهم مقصّرين وفاشلين وفاسدين، إذا عجزوا عن تنفيذ ما نريد! من دون أن يعني هذا انتفاء التهمة عنهم- وعنّا-؛ لكنّ ذلك يتطلّب نظرة موضوعيّة، ومحاكمة عادلة، وأحكاماً منصفة، وفرصاً مناسبة للتوضيح والتفسير والتمييز.. وإذا ما فكّرنا في هذه المسألة بهدوء، نجد، في أحيان كثيرة؛ بل في الغالب الأعمّ، أنّنا نحن من نضع أنفسنا بأنفسنا في موقف التهمة، أو الشبهة، أو المساءلة، أو التهلكة، حين نجمّل الأشياء أكثر ممّا تحتمل، ونعظّم الوعود، ونبالغ في الإيهام، ونصوّر الحال على أنّنا قادرون على «ما لم تستطعه الأوائل»!، وأنّ الإنجازات القادمة باهرة من دون أدنى شكّ، والمحصَّل فيّاض، والخير عميم؛ وهذه أخطاء كارثيّة لا تتوقّف تبعاتها على الأذى النفسيّ والمادّي المباشر وغير المباشر، ولا على الحاضر وعناصره ومشاهده ودروبه؛ بل تضعنا ومسيرتنا وأقوالنا وأفعالنا على محكّ المصداقيّة والثقة!.. ومن الخطأ الجسيم أيضاً أن نصدّق هذا، حتّى إن كنّا، أو كان سوانا القائلين به والقائمين عليه، ونبني مصائرنا وقادمات أيّامنا على ما هو رهن الإنجاز!..
مثل هذه الأخطاء، لا تتوقّف على الأفراد العاديّين (العاقلين) أو حتّى المقدَّرين أصحاب الإمكانيّات غير العاديّة، وفي مختلف المجالات، الذين يرتكبونها بلا حساب؛ بل إنّ هناك مجموعات مميّزة من ذوي الفكر والثقافة والمعرفة، يقعون في هذه المصيدة، التي تكون خيباتها مضاعفة.. ولهذا نرى شعارات لا تتحقّق، وأهدافاً لا وصول إليها، ويافطات خلّبيّة، ومسمّيات مموّهة، وملفوظات جوفاء، وقد كانت لها معانٍ وقيم وأضواء! وقد تجد، حين يقع المحظور، أو حين يأتي وقت المساءلة، كثيراً من التسويغات، التي تبدو أعجز ممّا تبدّد من آمال، وأوهى ممّا تبقّى من أصداء! ومنها ما يحمل في ثناياه المواساة والتواسي، ومحاولات لإعادة الشحن في ما قد تجاوزه الواقع والزمن والمنطق؛ فمثلاً إنّ أقاويل، تتردّد بكثرة هنا وهناك؛ من أنّ المشكلة ليست في الشعار؛ بل في حامليه، وأنّ العنوان لا غبار عليه، لكنّ السائرين في ضوئه- أو ظلّه- ليسوا على مستواه! وهذا ما يمكن أن تسمعه، وتقرأه، في مختلف الميادين والساحات، وتبدو هذه التحليلات وتلك ممكنة، ومحتملة، وصحيحة ومعقولة؛ فالكلام سهل إطلاقه، والتفاصح يسير؛ وهناك كثيرون يجيدونه، ويعتمدون عليه في التعميم والتعويم والتورية والتمويه أيضاً؛ ولا سيّما في تدبيج العبارات والشروحات وترويجها، وتسويغ ما وصلت إليه حالها؛ سلباً أو إيجاباً؛ لكنّ هذه الشعارات وتلك العنوانات، لم تأت من الغيب، وهناك من سطّرها، من البشر، وتبنّاها، وسوّغها، وشرحها، ووعد بتنفيذها، وربّما أقسم على ذلك! ومن الممكن؛ بل من الواجب مراجعتها، ونقدها، وتعديلها في مفاصل محدّدة، ومراحل مقروءة، ومن الأخطاء الجسيمة، التي تقع فيها مجموعات ومجموعات، أن تعطى صفة القداسة والإطلاق والحتميّة؛ وحتّى تلك المُنزَلة، التي يراها أصحابها وتابعوها والمؤمنون بها مقدّسة- ولكلّ مقدّسُهُ-؛ فلها معتنقوها، والمعتقدون بحقيقتها وجدواها، لكنّ بعضهم يقصّر عن ذلك، أو يعجز، وربّما يتجرّأ على أن يتجاهل، أو يخالف.. فنعمد إلى مقاضاته والقصاص منه؛ ولسنا، وليس سوانا- بالمطلق، أو بالضرورة- المرجعيّة المخوّلة بذلك! «وكلّ يدّعي حبّاً بليلى»!..
دعونا نناقش، لعلّنا نتّفق على أنّ ما من أحدٍ (عاقل)، يضع شعاراً عامّاً- أو خاصّاً- غير برّاق أو ليس جذّاباً، ويسير، ويعمل بهدايات مضلّلة؛ وهو يدري! وينصح، ويوجه، ويبشّر بما هو غير محبّب ومناف للمنطق وغير أخلاقيّ! وإذا كانت المشكلة في الرؤيا، أو في الرؤية، فإنّ الإنسان هو المسؤول، أوّلاً وأخيراً، وإذا كانت المعضلة في التطبيق حقّاً؛ كما يُدّعى، فإنّها في الإنسان أيضاً، مرّة أخرى، وليست أخيرة، وهذا الإنسان هو من يتحمّل المسؤوليّات كلّها، وهو الذي يَعِد، وينجز، ولا ينجز، ويبذل الجهود المطلوبة، أو يقصّر، وهو الذي يقيّم، ويحاسب، وهو الذي يتحمّل التبعات والمنعكسات؛ مع قناعتنا بأنّ الحالات متداخلة، مع فرادتها، ومعقّدة مع إمكانيّة قراءتها، ومتعالقة مع خصوصيّتها، وأنّ من يؤدّي دور القارئ والمكتشف والمحلّل والباحث- ونحن منهم- بشر لهم من القدرات ما قد لا يكفي، ومن الظروف ما لا يساعد! ولهم أهواؤهم ورغباتهم وهواياتهم، وما يحبّون وما يكرهون، وهم يمرضون، ويصحّون، يُصيبون، ويخطئون، يتعرّضون لمختلف الضغوط، وقد يتغيّرون، ويتبدّلون، ويُغيّرون ما في أنفسهم، وما في سواهم؛ ومن سيقوم بهذا التغيير، الإنسان أيضاً وأيضاً.. وهو ليس فرداً بعينه، ولا جماعة محدّدة، وليس قادماً- أو قائماً- من مكان واحد، أو عائلة واحدة، أو دولة واحدة، وليست له خلفيّة واحدة، ولا مرجعيّة واحدة، ولهذا نرى، ونلاحظ أنّ العدل لم يسُدْ يوماً على كامل المسكونة، والأمان لم يتحقّق، والسعادة نسبيّة، والمشكلات من جميع الأنواع، والكوارث الفظيعة، بحقّ الحياة وبيئاتها ومقوّماتها وعناصرها وظروفها، لا تزال تُتَوارث، وتتجدّد، وتستجدّ، وتنجح الحلول هنا، وتفشل هي أو سواها في أماكن أخرى، وهذا يتطلّب – لا شكّ- من أصحاب المصلحة والقرار والفعل، أن يكون على سلّم الأولويّات الآنيّة والاستراتيجيّة، الاهتمام بالإنسان، والاعتناء بتربيته، والسعي الدائم إلى تأهيله، وبذل المال والجهد والوقت لتثقيفه وإغنائه وتحصينه داخليّاً وخارجيّاً؛ لأنّ الحال ليست عارضة، أو طارئة، أو عابرة، وهي ستبقى قائمة، ما دمنا نظنّ أنّنا الأرقى والأوعى والأكثر فهماً وتحضّراً وانتماء وإيماناً وجدارة، وأنّ المشكلة كلّ المشكلة في الآخرين، وليست فينا، ونحن ضحاياها، ولا علاقة لنا بأسبابها ومجرياتها، ونتّهم ما- ومن- أمكننا ذلك، ونحاكِم، وننفّذ أحكامنا، إن استطعنا، ونستعمل قدراتنا في هذا، وفي أن نقتسم ما يطيب لنا، ولو جاع آخرون، ونستمتع نحن بموارد الأرض، بصرف النظر عن الآخرين، ونحن من يمكننا أن نقوم بما نريد؛ وأن نحصل على الأفضل؛ لأنّنا الأفضل! وأنّ الآخرين شحيحو العلم والمعرفة، ناقصو الإيمان، عديمو الذوق واللياقات، فاقدو الانتماء، محدودو النظر، مشوّشو البصيرة؛ وهم الأشرار، الذين تسبّبوا بهذا، وقاموا بهذا سابقاً، وسيقومون به لاحقاً، وعلينا أن نواجههم بكلّ ما نستطيع، ونتخلّص منهم، ونقضي عليهم، متى نقدر؛ ونحن الذين يجب أن ننجو، ومن المحتّم أن نبقى، ومن المفروض والضروريّ والمفروغ منه أن نسود، ولنا أتباع سنستغلّهم، ومؤيّدون سنزيد من استخدامهم، وهناك متردّدون، سنغريهم أكثر فأكثر، ونهمون سنشبعهم أكثر، وحيارى سنرشدهم إلى سبلنا ومضاربنا وقواعدنا؛ هي حاجاتهم وفضائلنا، وهي أقدارهم وصلاحيّاتنا، ومصائرهم وقراراتنا، أحوالهم وواجباتنا؛ من دون أن نفكّر لحظة واحدة في حجم الشرور، التي نحملها، ولا الجرائر التي نرتكبها، ولا الأذيّات والعذابات والفواجع والمواجع، التي يمكن أن نُغرق بها سوانا من الكائنات (العاقلة)، وسواها، ونتحكّم بها وبموئلنا الكبير بمحتوياته وجاذبيّته وخصوصيّته الحيّة؛ الصغير الصغير في مدار الكون الفسيح.
*شاعرٌ وأديب وقاص
التاريخ: الثلاثاء23-11-2021
رقم العدد :1073