لم يكن مفاجئاً إعلان الإدارة الأميركية تخفيف بعض(عقوبات قيصر) الأسبوع الماضي ، فهي تحاول بشكل مؤكد الخروج من مواقف الحرج في عملية التراجع، لذلك جاء التراجع عبر صيغة الاستثناء لعمل ونشاطات المنظمات غير الحكومية كلّها، على الإطلاق بالسماح، ودون استثناء لأي منظمة أو جمعية، للتعامل مع سورية عبر أنشطة غير ربحية ، وفق المفهوم الأميركي ، رغم أن القرار يكاد يشمل كلّ المجالات المحلية والتنموية والإعمار وإصلاح أو إشادة البنى التحتية.
فقد أعلنت وزارة الخزانة الأميركية عن عملية توسيع (إعفاءات) من العقوبات المفروضة ضمن ما يعرف بقانون قيصر السيىء الصيت ،وذلك بموجب الفقرة ٩٣٨ من قائمة العقوبات بدواعي دفع التعافي المجتمعي في سورية بعيداً عن التواصل الرسمي، إذ تم السماح لكلّ النشاطات والعمليات غير الحكومية للمنظمات غير ذات النفع وغير الربحية والقطاع الخاص والمؤسسات المالية لخدمة المشاريع التنموية والحيوية للقطاع الصحي ، بما فيه الأجهزة والأدوية والمواد المخبرية والتجهيزات اللازمة ومواد التدريب والتأهيل ، فضلاً عن إدارة البنى التحتية الحساسة وترميم وتجهيز الأبنية والمستودعات واحتياجاتها الكهربائية وأجهزة المراقبة والضبط، وطالت الإعفاءات قطاع الزراعة وتجهيزات الري والآليات والمضخات والمواد الضرورية لتأهيل قطاع الزراعة بالمطلق وفوق ذلك السماح بإدخال كلّ المعدات والتجهيزات الكفيلة بإيجاد السكن والمأوى للنازحين وتجهيزه بكامل احتياجاته من مياه وكهرباء وشبكات صرف واحتياجات النظافة العامة وغيرها.
النظرة الأولية تشي بالرضا والقبول وتعيد إلى أذهان المتابعين ثبات الموقف السوري وصوابية الرؤية البعيدة لبلدنا في حتمية التراجع عن كلّ القرارات العدائية ، لكن الأمر اليوم يحتاج التوقف عند هذا الأمر مطولاً ، فمن كان يمنع الغذاء والدواء والطعام والاحتياجات الأساسية عن شعبنا ، لم يتراجع اليوم فضلاً وتكرّماً، فالواقع الميداني والموقف السياسي والتطورات السياسية والاقتصادية الدولية أفرزت واقعاً جديداً لم يعد يسمح باستمرار مثل تلك العقوبات الظالمة والإجراءات أحادية الجانب خارج إطار الشرعية الدولية ، وتأتي الولايات المتحدة الأميركية اليوم في هذه الإجراءات الجديدة لتتناسى مسألة قانونية وتتجاهل القانون الدولي في رحلة تراجعها ، إذ أن أي أعمال أو مساعدات إنسانية تقدّمها أي دولة أو منظمة إنسانية يجب أن تخضع لشرط التعاون والتنسيق وموافقة الدولة صاحبة السيادة ،بمعنى أنه من حق سورية أن تعرف بداية من هي المنظمات والهيئات التي ستقوم بهذه المهمة ، وما هي النشاطات والمساعدات الإغاثية أو الخدمية وحجمها والمناطق التي تستهدفها في نشاطاتها وعدد وجنسية ووظيفة القائمين والمشرفين والعاملين وحدود عملهم ومهماتهم ، وقبلها كلها طريق الدخول والمعابر والمناطق الحدودية التي ستدخل منها، إذ أن الإدارة الأميركية ما زالت في موقف العداء الكبير ويمكن أن تتخذ هذه الخطوة لدعم المجموعات المسلّحة وتقديم مساعدات عسكرية تحت مسميات إنسانية وتستغل وجود معبر وحيد مع الجانب التركي ما زال مفتوحاً وفق قرار مجلس الأمن الدولي ويمكن استغلاله بالشكل السيىء.
والأمر الخطير بالتوازي والذي قد يرتبط شيطنة بتخفيف العقوبات تلك الدعوة لعقد اجتماع في واشنطن حول الديمقراطية ونشرها والصعوبات والعقبات المحتملة استناداً لتجارب الفشل السابقة في نشر الديموقراطية الأميركية ، إذ ستحاول من خلال المجتمعين إعطاء دعم معنوي للدفع بمنظمات وهيئات دولية للعمل في مناطق الجزيرة والشمال بعيداً عن القانون الدولي والاتفاقيات التي تشترط موافقة الدولة الشرعية صاحبة السيادة على أي نشاط إنساني أو إغاثي ، خاصة وأن عشرات المنظمات تعمل في مناطق الشمال والجزيرة دون تصريح أو موافقة وهي تعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية وتركيا بشكّل خاص ، وهي تزيد عن مئة منظمة بمسميات متعددة إلى جانب عدد قليل من تلك المنظمات الحاصلة على موافقات رسمية من حكومة الجمهورية العربية السورية بشكل نظامي ، وهي غالباً صغيرة وتعمل بتمويل صغير ومحدود ، فيما المنظمات التي تعمل بصفة غير شرعية تحصل على تمويل كبير يتركز الجزء الأكبر منه في مناطق تواجد عصابات قسد لدعم إشرافها وحمايتها لبعض المخيمات والسجون ولا سيما مخيم الهول ، الذي يمثل احتياطياً إرهابياً مؤجلاً يحتمل تفجيره في لحظة عمل أميركية مستقبلاً!
ويبقى الموقف العدائي الأميركي ضد سورية محدداً لسياستها الفعلية، فتغير الإدارة في البيت الأبيض لم يغير كثيراً من ذلك الموقف العدواني فقد أكد إيثان غولدريتش نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي مؤخراً لعدد من الشخصيات (المعارضة) أن واشنطن مستمرة في موقفها في سورية ، كما أن تصريحات جويل ريبورن المبعوث الأميركي السابق إلى سورية ذهبت في ذات الاتجاه إذ صرح مهدداً بأن سورية لن تعود أبداً إلى ما قبل ٢٠١١ مؤكداً أن الهدف تجاه الوضع في سورية لم يختلف رغم تغير الإدارة الأميركية وأضاف بأنه يتوقع استمرار التوتر في سورية لفترة طويلة دون أمل بوجود حلّ مقبول .
إن التضارب داخل الإدارة الأميركية يمثل أبرز عناصر الضغط والعداء ، وما قرار وزارة الخزانة إلا محاولة لتمرير خطّة عدوانية جديدة في ظل رسالة ظاهرها الموقف الإنساني ، فيما الحقيقة كانت إجباراً لمخرج معقول من مستنقع صعب يأخذ طابعاً إنسانياً ويكتسي بصبغة قانونية.
معاً على الطريق – مصطفى المقداد