الملحق الثقافي:دراسة – وجيه حسن
هل بيننا من ينكر أو يرفض أو يتجاهل مقولة الكاتب الروسي الكبير «ليو تولستوي، 1828 – 1910 م» صاحب رواية «إقطاعي روسي»، وهي أوّل رواية له، وصاحب ملحمة الألم الشّامل، رواية «السّلم والحرب»، وهي من الروايات الخيالية، المنشورة العام 1869 م، التي انتشر صيتُ مؤلفها في العالم انتشار النّار في الهشيم، كما أنّ هاتِهِ الرواية الشّائِقة الماتِعة، طبّقت شهرتها الآفاق، وقد تُرجمت إلى كثرة كاثرة من لغات العالَم الحيّة، من ضمنها لغتنا العربية الأمّ، لغة الضّاد..
يقول «ليو تولستوي» في مقولته المشار إليها أعلاه: «الحياة ليست متعة، بل هي واجب ثقيل باهظ»!
ويقول في مقولة أخرى: «إنّ الإنسان مُخلِّص نفسه.. أمّا عقل الإنسان، فينبغي أن يعمل في سبيل إنارة قلبه، حتّى يرفعه من الألم إلى الأسى»..
كان «تولستوي» واحداً من هؤلاء الأناسِيّ النّادرين، الذين – بدلاً من أنْ يرتفعوا عن سويّة الناس، بسبب طموحهم الشّديد – هبطوا إلى مستوى الناس، لِعلّةِ محبّتهم الفائقة لهم، وكان «تولستوي» في تواضعه الجمّ هذا، يشبه إلى حدّ كبير الحكيم الهندي «بوذا» وهذا لقبُه، وتعني «المُنوَّر»، هذا الرّجل العظيم، الذي اتّضعَ لينتصر، وتعلو قامته في العالَم سامقةً كشجرة سرو..
الحقّ يُقال: لقد أبدع «تولستوي» كتباً ممتازة، من الواقعية الشعرية، فكانت حكايات الطفولة، وقصص الحبّ، والروايات عن منطقة «القوزاق»، والمقالات والرّسائل، كلّ هذا السّيل الجارف، سالَ من قلمه في تَعاقبٍ سريعٍ مُتلاحِق..
وفي صدد حديثه عن الأدب، وعن قيمته في حَيَوَات البشر وكينونتهم يقول:» إنّ الأدبَ العظيم، ينشأ حيث تكون هناك يقظة أخلاقيّة عظيمة»، ومن دونها فلا أدب ولا فكر ولا حياة، عليه ألم يقل أمير الشعراء «أحمد شوقي» يوماً: وإنّما الأمَمُ الأخلاقُ…»؟! ومن دون توفّر الأخلاق العالية الرّفيعة لدى هذا الكاتب أو ذاك، فليس هناك أدب حقيقي عظيم يقظ، يمكن لنا نحن القرّاء الأخذ منه، والاغتراف من ينابيعه الثرّة الغزيرة..
عليه، فنحن العرب من مائنا للماء – ومن أسف شديد مُوجِع – لم تملأ حياتنا مثل هذه اليقظة بعد، لأنّنا لانزال حتى الوقت الرّاهن، نعيش صِراعَ قِيَم، وهو في البدء والمنتهى، صراع حادّ طويل شاقّ.. إذن نحن لانزال نراوح في عذاب المخاض الصّعب.. وفي عمليّة المخاض، كما نعلم جميعاً، قد يحدث الموت، مثلما قد تحدث الولادة، سواء بسواء..
عَوْدٌ على بدء.. فلقد شارك «تولستوي» الناس في عواطفهم وحياتهم.. إنه تواضَعَ ليرتفع وينتصر، فهبط من مرتبته الأرستقراطيّة، إلى مستوى الإنسانيّة العام، وبعمله العظيم هذا، فقد رفع الإنسانيّة إلى شوامخِ البَهاء الخُلُقي..
وعن أولاد الكاتب الكبير «تولستوي»، فقد كانوا يتثاءبون وينفضّون من حول أبيهم، كلّما تكلّم عن أُخوّة البشر، لأنّ العيش من غير أنانيّة، إنّما يبدو لهم – حسب نظرتهم وفلسفتهم – كدليل واضح على العبثيّة والجنون!!
بناء على ما ورد، فقد كان الأدب بالنّسبة إلى «تولستوي» ديناً، إنجيلاً مقدّساً للجمال والحكمة والخير، هذا الإنجيل الذي ينبغي أن يكون في حوزة الكلّ.. فعوضاً من أن يكتب «تولستوي» لإمتاع الأقليّة، فقد كتب لتثقيف الأكثريّة.. وفي عمله الأدبيّ هذا، في سبيل القرّاء/ المتلقّين، وعامّة الشعب، لم يأخذه وهمٌ بشأن ذكائهم وحيويتهم، فقد كان مدرِكاً إدراكاً تامّاً «الجانب الحيوانيّ المُنحَطّ» في سلوك كثرة أو قلّة من البشر، لكنّه شعر بأنّ الناس سائرون نحو النّور، إنّهم ينتظرون مصلحاً، قائداً، معلّماً، أديباً، رجلاً يُرِيهم معالِم الطريق القويم المستقيم..
وعليّ أنْ أسرد في هذا السّياق، أنّ الكاتب العظيم «تولستوي»، قد كتب أثناء «حرب القرم» ثلاثة كتب دَسِمة، كان الأوّل مملوءاً بشوك الشّوفينيّة: «الوطنية المتطرّفة»، وفي الثاني تكلّم بحزن طاغ على المجازر المتبادلة بين الكائنات الإنسانيّة، أمّا في مقدمة الكتاب الثالث، فكتب يشجب حكّام العالَم، لتحويل رَعاياهم – حسب رأيه – إلى قطعٍ من «طعام المدافع»..
وقد استنكر «تولستوي» في مسيرة حياته تَرفَ النّبلاء، وتزمّت القُسُس، وظُلم القياصِرة..
ويقول مَنْ كتب عنه، إنّ «تولستوي» فرّ ذات يوم من كنف بيته، وذهب باحثاً عن السلام في العَرَاء، وكان حينها في الثانية والثمانين من العمر، وجالَ مثل الحكيم الهندي «بوذا» في الطرقات، بعدما ارتدى لباس الفلاحين، لكنّ «بوذا» ترك داره طلباً للحياة، أمّا «تولستوي»، فقد قام بذلك طلباً للموت، إذ إنه قرّر أنْ يموتَ وحيداً..
أخيراً سقط الكاتب الكبير على حافّة الطريق، كي لا يقومَ مرّة أخرى، أمّا الطبيب الذي حاول إسعافه، فقد قال له «تولستوي» بوعيٍ تامّ: «يا عزيزي هناك الملايين من الكائنات الإنسانيّة التي تُقاسي العذاب على الأرض، فَلِمَ تفكّر فِيّ وحسب»؟!
ختاماً، يقول أحد النقّاد عن الروائي الروسي الكبير «تولستوي»: «كان ينظر فجأة إلى السّلام الداخلي للعالَم، فتلتمع في عينيه السّماء غير المحدودة، التي تتأمّل في انحطاط الأرض وجرائمها وفضائحها، وما يدور فيها من مآسٍ وويلات وآلام، تندَى لها أجْبِنَةُ العالَم بأسْرِه»…
التاريخ: الثلاثاء30-11-2021
رقم العدد :1074