الملحق الثقافي:رنا بدري سلوم:
قد تكون فسحة سماوية للمنتظرين على أرصفة الحلم، «سيعبر الأمل هنا فوق الجسور»، حرف «السين» الذي يعبّر عن المستقبل القريب قد أنبأ سبعة كتّاب بذلك، فنسجوه لنا رواية، تصف الحالمين للأمان والسلام في سورية، ففي « القطار الأزرق» رجحت كفّة الجماعة، بعد أن أخرجت أنا المتكلم من ضمائر كتّابها، فكان على المحامية فاتن ديركي أن تحكي قصصا عن قضايا واجهتها، عن المرأة أبرز ضحايا الحرب والحبّ، وعلى الكاتب السوري المغترب مقبل الميلع أن يذرف دموع غربته بصمت، وعلى الكاتب المسرحي محمد الحفري أن يغترف من مياه نهري الرقاد واليرموك في بلدته، وعلى المحامي والروائي محمد الطاهر أن يمتطي مراكب الفرات السائرة إلى الشام، وعلى الأديب الزميل سهيل الذيب أن يأتي بقبضة ذكريات ضائعة من تراب صمّا، وعلى الصحفي والكاتب عماد النداف أن يقطف ضمة من أزاهير «عسال الورد» وأخيراً على الكاتب جمال الزعبي أن يصنع لنا قطاراً من الحطام !
سبعة كتّاب كانوا أبطال الرواية، نسجوا قصصهم التي حاكوها بأسمائهم ولسانهم لتكون صورة مصغّرة عن واقعٍ عشناه، وجرحٍ تعايشناه في ويلات الحرب، فلامسوا أفئدتنا حتى لامسنا أوجاعهم، فرغم اختلاف أطيافهم ومعتقداتهم وآرائهم إلا أنهم مثلوا جرحاً سورياً في محطة واحدة تدعى الأمل، فكان لكل منه أسلوبه ومرآته وملامحه التي اختزلها بحرف من دم يجري على السطور، يشي بحكايا متعثرة وخواطر مكسورة وجرح لا يزال ينزف، فترانا كقرّاء هُجّرنا كالطاهر « تصور نفسك تترك بيتك وملابسك وجيرانك وتهرب لتنجو من السيّاف، لكنني بعد أن رأيت مأساة الآخرين أيقنت أن محنة البلاد كبيرة جداً، وأن مأساتي ومغادرتي إلى المجهول هي جزء بسيط من مآسي الناس»، واشتقنا كالزعبي « أبكتني الغرانيق، أبكتني لأنها قادرة على العودة وقت تشاء ونحن علينا أن نعود ولا بد للقطار أن ينطلق في هذا الطريق»، وتأملنا كفاتن « هل تعرفون ما العجز؟ العجز أن تبذل كل قوتك كي تمد يديك وتطلقها نحو نور الكون، فتعمي عينيك العتمة وتكتشف أخيراً أنك بلا يدين بلا أطراف». وتمردنا وسخرنا مع سهيل الذيب» أي انتصار، وأي هزيمة وأي بطولات، إذا كان الانتحار بطولة فأكثر القادة العسكريين خاصة الذين هزموا في الحروب ماتوا انتحاراً، انتحروا لأنهم لم يستطيعوا مجابهة شعوبهم التي خذلوها، كهتلر..»
وكنا كالحفري « كنت سابعهم، كنت من دون بندقية… ، كنت الأرنب الذي علقه الأصدقاء على النار حين تساقطت عليهم القذائف، كنت حجر الرصيف وواحداً من مداميك المحطة».
ليس بالأمر السهل أن تلتقي عظمة الأنا مع واو الجماعة في بوتقة الحلم في القطار الأزرق، لذا سألناهم عن تجربتهم فيها، فلم يخفِ راوي الرواية وأحد شخصياتها الكاتب عماد النداف الصعوبات التي برزت منذ الخطوات الأولى « لكن الحوار هو الذي أنتج «واو الجماعة» في الحلم الذي نتحدث عنه، وعلى هذا الأساس، تم الاتفاق على سيناريو عمل، وكان السيناريو في جوهره نوعا من المعادلة الكيمائية التي تمكن أن تذيب الأنا في الأسلوب والكتاب، ومحاولة الاستئثار بالنص الذي نشتغل عليه، وإن تعاظم الأنا في العمل التشاركي يمكن أن تؤدي إلى تدميره، وكانت خشيتنا واضحة عندما شرعنا بالاتفاق على مشروعنا الروائي «القطار الأزرق» الهادف إلى بناء نص تشاركي هو الأول الذي يكتبه سبعة كتّاب بروح واحدة» .
وحده الأمل الذي نستخلصه من الرواية فضاء واسع كما بين الكاتب جمال الزعبي « أخذ العنوان جلسات عدّة من المشاركين في الرواية بعد أن كان لدينا عدة خيارات، وليس الأزرق لون الأمل والهدوء وحسب بل فضاء ممتد إلى ما لانهاية كسماء وبحر، بما يحمله من أمل لتحقيق أحلامنا بنهاية هذه الحرب. وهو ما وجده ضروريا الكاتب مقبل الميلع «تناول الحرب على سورية في العمل الروائي وعدّه من أهم المواضيع، ووجب علينا كأدباء أن نحكي قضيتنا ونعبّر عن رأينا بأسلوبنا الروائي حتى يصل القطار وتعم السكينة بلدنا الحبيبة».
« تجنباً لأي حساسية» لم يفصح الكاتب محمد الحفري عن سبب تأكيده أنه لن يعيد تجربة الرواية الجماعية ! في حين سرّ لي الزميل الكاتب سهيل الذيب قائلاً: « كثيراً ما تخاصمنا وتزاعلنا وباتت الرواية في أحيان كثيرة شبه مستحيلة النهاية لكن تدخل البعض منا سهل الطريق فأنجزنا عملاً يقترب من الإعجاز أو الأعجوبة، إذ لا يمكن للعمل الجماعي أن ينجح إلا بالكثير من التنازلات الأناوية في خدمة واو الجماعة التي بقيت هدفنا الأوحد»، وهو ما أشار إليه الكاتب محمد الطاهر بأن «الأفكار الإبداعية عندما تلتقي وتتلاقح تنبت زرعاً طيباً، ينتج ثمراً طيباً لذلك كان الحلم هو الأساس في إنتاج هذا العمل التشاركي والعالمي».
ولا يمكن أن ننسى المرأة السورية ودورها الفكري والوطني خلال الحرب، فكان على الكاتبة فاتن ديركي وكما أوضحت « نقل هذا الدور بأمانة وصدق وتكريسه في الرواية، ففي الحقيقة مرت المرأة بظروفٍ قاسية حيث وجدت نفسها وحيدة أمام مسؤولية أسرتها حين فقدت المعيل، فكانت المرأة القوية الشامخة كالنساء اللواتي مررن عبر التاريخ، كزنوبيا ملكة تدمر التي استشهدت بها في الرواية، فالمرأة وأهمية وجودها ودورها الاجتماعي والثقافي والفكري هو ما حاولت إثباته من خلال قبولي هذا التحدي ومشاركة زملائي الأدباء الست هذه التجربة الممتعة والبالغة الأثر».
بعد أكثر من عام في كتابة رواية «القطار الأزرق» الصادرة عن دار «توتول» للنشر، وبعد حصار واشتباكات مثل مطحنة، ضجيجها يثقل الروح وخفاياها بفرض الشؤم على الخيمة السماوية، قطع القطار بصفيره الحاد بوابة الخروج تاركاً إيانا نحن من تعيا بنا الأمكنة، ويعيا بنا الانتظار باحثين عن محطة أمان تحملنا إلى حديقة نفرش بين ورودها أحلامنا، لينمو رحيقها مضمخاً بعبير زهور تستنشقه أرواحنا ذات رحلة سفر».
التاريخ: الثلاثاء7-12-2021
رقم العدد :1075