الثورة – أديب مخزوم:
منذ بداية النهضة الفنية السورية الحديثة في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كان طموح بعض الفنانين السوريين المحدثين متجهاً نحو صياغة لوحة محلية تؤكد ملامح إسقاط الذات على قماش اللوحة عبر معطيات التراث الدمشقي بشكل خاص، حيث لجأ هؤلاء إلى تكاوين البيوت الشامية وأجواء التراث الشعبي في محاولة الوصول إلى لغة تشكيلية جديدة، تمزج مفردات الماضي بالواقع وبالحداثة.. بمعنى أن تلك التجارب قدمت طروحات تشكيلية جديدة على الأقل عبر الاستفادة المباشرة من معطيات الحداثة الأوروبية والتفاعل مع تاريخية المكان، فاللون يستشف كلون صريح يعكس تقلبات المشاعر والأحاسيس، ويحمل وهج الأضواء المحلية وانعكاساتها على التكاوين المعمارية المرسومة (تجارب: ميشيل كرشة، ناظم الجعفري، ممدوح قشلان، أسعد عرابي، عبد المنان شما، غازي الخالدي وغيرهم) إلا أن أسعد عرابي تحديداً لم يبرز فقط كفنان تعبيري مرتبط بالمنظور المعماري المتوارث من لوحات الرواد الأوائل، وإنما برز أيضاً في مراحله الأخيرة كفنان تجريدي صاحب لمسة لونية ملتهبة تحولت في خط تصاعدي أو تطور روحي نحو اللونية المحلية بعد استقراره في باريس، فاللون والضوء كانا في تجربته بمثابة التبشير بقدوم الموجة الشرقية المتوسطية في التجارب الاختبارية في باريس في الثمانينات والتسعينيات، فعرابي أعطى اللوحة التجريدية منعطفاً جديداً تبلور فيما بعد في مظاهر التأكيد على اللون المتوسطي كمنطق لتأكيد استمرارية ارتباطه بألوان الطين الدمشقي وبدفء الأمكنة البحرية في صيدا، التي غذت في نفسه قدرة البحث عن استقلال فني وهوية فنية بديلة عن معطيات التأثر بلونية التجريدية الفرنسية.
ولقد ساعدت تجارب بعض فناني الرعيل الثاني في جيل الحداثة السورية في الوصول إلى أجواء تشكيلية جديدة، حيث لجأ العديد من الفنانين إلى أجواء العمارة المحلية القديمة للقيام بتجارب جمالية تأليفية ومتعددة عكست أحاسيس الارتباط بنبض التراث المحلي وأجواء العمارة القديمة في المدن السورية (لوحات : أحمد إبراهيم، ناثر حسني، محمد علي الحمصي، مأمون الحمصي، سالم الشوا، عز الدين همت، سهيل معتوق، علي الصابوني، بطرس خازم، جريس سعد، نذير بارودي ، ليلى طه، وغيرهم) ولاتزال التجربة التراثية تبحث عن رؤى مغايرة وجديدة من خلال تجارب عدد كبير من الفنانين الشباب الجدد، الذين يتابعون استلهام أجواء العمارة القديمة والزخرفة الشرقية.
وبدأت تجارب فنانينا في الثلاثينيات بصياغات تسجيلية وكلاسيكية وهواجس سياحية وخاصة: توفيق طارق، محمود جلال، زهير الصبان، عبد الوهاب أبو السعود، وغيرهم، ثم تطورت على أيدي العديد من فناني الرعيل الثاني ، وحققت مجدها في تجارب فناني الحداثة التشكيلية، باعتماد الصياغة العفوية المتحررة التي جعلت المشاهد المعمارية تتخلص من قشورها الخارجية مقتربة من حركة الداخل أي حركة المشاعر والأحاسيس من خلال اللمسات اللونية العفوية والتلقائية والمباشرة.
فإننا نجد ان مدينة دمشق القديمة برزت في لوحات فنانينا وفي كل المراحل كقصائد حب مرتبطة بخصوصية التراث المعماري الفريد في مدينة دمشق القديمة، فالطرب اللوني المتغلغل في نسيج اللوحة من الكلاسيكية والواقعية وصولاً الى التعبيرية ومرورأ بالانطباعية والواقعية الجديدة.
ونستطيع أن نستعيد شيئاً من وضوح الصورة التشكيلية المتفاعلة مع انطباعات العيش في الأمكنة المفتوحة على التاريخ، إذا استعدنا شيئاً من وضوح صورة بعض المعارض الجماعية التي تقام في العاصمة دمشق، وعلى هذا فالاستعادة البانورامية السريعة لصورة التراث المعماري الدمشقي القديم في الفن السوري المعاصر، تطل عبر حركة المعارض الجماعية والخاصة التي نشاهدها في دمشق ، والتي تعطينا صورة مختصرة عن الرؤى التشكيلية المتداولة في الفن السوري المعاصر، التي تتبع حركة التاريخ، في البحث عن مناخ شرقي وتكاوين معمارية محلية.
هكذا أصبح المشهد المعماري الدمشقي، مجرد مدخل لقطف المناخ اللوني الشرقي والغوص أكثر فأكثر بتعبيرية اللون وحركة الضوء بهدف الامساك بإيقاعات تشكيلية جديدة تعكس التوترات الخفية لمشاعر وانفجارات الداخل بانسجامها وتناقضها، وفي بعض التجارب وجدنا محاولات لصياغة ألوان وتكاوين العمارة المحلية بإحساس تجريدي خالص، بمعنى أن المساحة التي تتألف من طبقات لونية كثيفة أو سميكة تبدو منسجمة مع أجواء الطين الدمشقي، حيث يبرز الضوء الشرقي مشرعاً على الأحاسيس وعلى مرايا الذاكرة أو على مناخ لوني أكثر شاعرية وعلى غنائية مستمدة من الينبوع التاريخي والبيئوي ذاته، فاللون والضوء وغنائية التمازج مابين الحرارة والرطوبة، الظلال والأضواء، نجدها تطل في لوحات فنانينا الذين تعاملوا مع أجواء التراث المعماري حيث تظهر كعناصر أساسية أو كنبرة صافية تعني الانتماء إلى عمارة محلية مميزة بمناخها وتاريخها وعطائها.
السابق