ما جرى بين ٩ كانون الثاني الجاري و١٣ منه في جنيف وبروكسل وفيينا، ليس مجرد اجتماعات ومشاورات ومحادثات بين روسيا والناتو وأميركا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بل ربما هو أعمق من استكشاف نوايا إذا كانت موسكو تعرفها وتتوقعها، فإنها لا ترتاب اليوم من أنها تحولت إلى مخططات، خصوصاً مع كم الأخبار والمعلومات المضللة التي تدفقت من واشنطن ومسؤوليها حول أوكرانيا واحتمالات الغزو الروسي المزعوم لها.
مرة يفبرك البنتاغون رزمة أخبار عن أوكرانيا من بعد خيبته في كازاخستان، ومرة تخرج نائبة وزير الخارجية الأميركي فيكتوريا نولاند على الإعلام لتغرقه بادعاءات باطلة قد أعدت بلادها ١٨ سيناريوهاً لمواجهتها حسب زعمها!.
وما بين نولاند والبنتاغون، تملأ واشنطن الفضاء بما ينطوي على تهديدات على الأرجح هي لا تدرك خطورتها، وتسيء فيها التقديرات لتتخطى بها حدود حماقاتها السابقة وعلى نحو مفرط وغير مسبوق بالتهور!.
تقرع إدارة بايدن طبول حرب كبرى، أو تلوح بها، لا فرق، هي تفعل ذلك الآن، ولا تستمع لأي دعوات تطلب منها قبل أن تقرع الطبول أو أن تلوح بالحرب، القيام بإعادة حساباتها، ليس بما يخص روسيا من جهة والصين من جهة أخرى، بل أن تراجع حساباتها كلها مع استمرار جولات فيينا الخاصة بالملف النووي الإيراني، ومع استحقاقات كبرى تفرضها التطورات المتحركة باتجاهات تخالف رغباتها في العراق واليمن وسواهما في المنطقة وخارجها.
على نتوءات حادة تتحرك الولايات المتحدة، تستخدم في خطابها مع الكبار لغة غير مقبولة، إنذارات وتهديدات، وتتخذ قرارات وإجراءات، تحشيد وعقوبات جديدة تتخطى فيها كل الحدود (هناك حديث أميركي عن فرض عقوبات على الرئيس بوتين) وتتعمد إغلاق مسار الدبلوماسية بعناد المستبد، ذلك لإخضاع الخصم، في الوقت الذي تهزم مشاريعه وتتكسر هنا وهناك ولا تترك له ما يؤهله لفرض شروطه وإرادته على الآخرين!.
لا يعني هذا الذي تقوم به الولايات المتحدة سوى أنها تعبر عن الجنون الذي إذا كان سيحملها إلى الهاوية أو الانهيار- بمعنى الانتحار- فإنها لن تكون وحدها، بل ستأخذ العالم معها إلى النتيجة ذاتها، لماذا؟ فقط كي لا تعترف بفشلها، وكي لا تقر للآخر بقوته ونديته، وحقوقه!.
منذ ٢٠١٤ وواشنطن تضع أوكرانيا هدفاً عاجلاً لها، تمسك سيف الناتو وتهدد به، تلعب وتتلاعب بأمن واستقرار العالم في بحر الصين وعلى تخوم روسيا، زحف نحو الشرق، درع صاروخية تتمدد، تحرشات خشنة، ومحاولات تطويق وتضييق مملوءة بتهديدات علنية رغم الخيبات التي لا تريد الإقرار بها!.
قد تكون محاكاة الولايات المتحدة لطموحاتها الكبرى في هذه الأثناء غير جدية لأنها تدرك استحالتها، غير أنها في هذا الوقت لا تملك إلا أن تهرب إلى الأمام لتوقف أو لتحد من حركة صينية – روسية تعتبرها أصبحت خارج السيطرة، ولا بد من كبحها، تعطيلها حتى لو اقتضى الأمر تفجيراً للوضع معهما أو مع أحدهما.
مما يؤكد ذلك هو أن كل حركات واشنطن الهستيرية تبديها على هذا المشهد الذي فيه من الإخفاق بمقدار ما فيه من العجز، وفيه من التهور بمقدار ما فيه من الحماقة، وإلا فما معنى الامتناع عن إعطاء موسكو الضمانات الخطية التي تطلبها بشأن الالتزام بوقف زحف الناتو شرقاً؟.
عندما تتحدث إدارة جو بايدن عن أنها رتبت كل شيء، حتى الاتفاق مع شركات دولية لضمان عدم توقف إمدادات الغاز إلى أوروبا في حال اندلاع نزاع روسي أوكراني تراه واشنطن وشيكاً، فإنها إما تتوهم خلق بيئة تسمح لها بتحقيق شيء مما عجزت عنه مراراً، وإما أنها ترتب لحماقة تدخلات لا أحد يعرف كيف تنتهي وإلى أين تقودها؟.
معاً على الطريق- علي نصر الله