الثورة – هفاف ميهوب:
في بحثه عن تاريخ الفكر، ومدى قدرة العقل على مقاومة القوى العاملة على دماره، يستعين الباحث الاسكتلندي “جلبرت هايت” بآراءِ القدماء والمعاصرين، ممن كان هدفه من استعراض آرائهم، فهم معنى الحضارة الحديثة، والإجابة على أسئلة كثيرة تخطر في باله، وتتعلق بمعنى التربية الحديثة، والفكرة الجامعة، ومدى تمكّن العلم من فهم الاتجاهات البشرية، وغير ذلك مما أراد منه التأكيد على “جبروت العقل” وقوة أنواره التي وحدها من بإمكانها أن تنير كلّ طريق..
يذكّر بكلّ حضارة من الحضارات، وبالحروب التي نشبت فيها وهدفت إلى استعباد العقل أو تحريره، مشيراً إلى أنه من المستحيل أن يتكهّن المرء بحركة الذهن البشري، أو أن يضع تاريخاً للفكر محكم النظام والقوانين التي يخضع لها في نموه وحركته.
يشير أيضاً، إلى أن “المشقّة التي يعاني منها دارسو علم الإنسان وهجرة الأفكار، والطرق المتعددة التي يسلكها الفكر من عقلٍ إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، لم تمكّن أحداً حتى اليوم، من التوصل إلا إلى قواعد غامضة، غموض العقل وإعجازه”…
يشير إلى ذلك، ويجد بأنه من “الغريب والعسير أن ندرك كيف يتأتّى لشعبٍ واحد، أن ينجب في قرنٍ واحد، ألف مخترع وفيلسوف وشاعر وسياسي، ثم لا تكاد تنقضي بضعة أجيال، حتى يخرس لسانه، ويعقم فكره”.
أما مايجده الأغرب من ذلك، فـ “أن يقرأ المرء تاريخ العبقرية، مستطلعاً ومتبيّناً عدد العقول الشوامخ التي ظهرت في بلادٍ منعزلة، أو قبائل متوحشة، أو عصور أثقلها العنف البغيض..”
لاينكر هنا، بأن هناك مفاجآت في تاريخ الفكر، وهي لا تقتصر على ظهور العباقرة هنا وهناك كالقمم الشامخة، بل تشمل ظواهر لا يتوقعها المرء ولا يمكن تفسيرها لطالما “ثمّة رجال يحسنون التعبير عن عصرهم وبيئتهم، ولكنهم بما يتّصفون به من توهج الخيال، وسعة المعرفة، يرتفعون فوق مستوى عصرهم وجيرانهم، فكأنهم من أهل زمانهم والأبدية جميعها، وإن عمدنا لتحليل عقولهم، نجد اندماج طاقات العقل والانفعالات في تركيبٍ جديدٍ، خلاق، متحضّر، حيّ، مدهش..”.
بيد أن ما توصّل إليه، وما أراد قوله، هو أن قوة العقل في كونه اللغز الصعب، ونشاطه خفيّ ومعقّد، ولا يمكن لأيّ منّا توقع الأفكار التي قد تدور فيه، بعد سنة، أو اسبوع، أو يوم، أو حتى بعد ساعة واحدة، والسبب برأيه:
“نحن جميعاً من أهل الكهف، والكهفُ الذي نسكنه هو عقلنا، أما الوعي فهو كالمشعل الصغير، يتراقص نوره ويتوهّج، ولا يسعه حتى في أفضل الأحوال، أن يهدينا أكثر من خيوط قليلة، على أقرب جدران الكهف لدينا، أو يبيّن انعكاس ضوئه..”.