الملحق الثقافي:حوار: عبد الحميد غانم:
من المعروف أن هناك مشكلات تعصف بتطور اللغة العربية اليوم في ضوء التحول الرقمي، وأنّ هنالك معوقاتٍ جمّةً ليست يسيرة تواجه تطور العربية رقمياً، الثورة حاورت أ.د.أحمد علي محمّد الأستاذ الدكتور في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة دمشق عضو اتحاد الكتاب العرب، ليحدثنا حول هذا الموضوع مجيباً عن تساؤلاتنا.
في ضوء المشكلات التي تواجه لغتنا العربية في الوقت الراهن الذي نشهد فيه تصعيداً متسارعاً للثورة الرقمية مارأيك بكيفية إخراج لغتنا من العزلة المعرفية؟.
في الزّمن الحالي تعاني اللّغةُ العربية في ضوء التحوّل الرقمي للمعرفة المعاصرة من مشكلات جمّة، أخطرُها الفجوةُ الرقمية التي من المتوقع أن تقصي العربية َإقصاءً شبهَ كاملٍ عن المشاركة الفعلية في الناتج المعرفي للحضارة الجديدة، لذا فالعربيةُ اليوم بحاجة ماسة لإنقاذها من العزلة المعرفية التي تواجهها، ويمكن تشخيصُ المشكلاتِ التي تهدد وجودَها في العالم الرقمي المعاصر بما سيأتي:
– كانت اللّغة العربية قد سبقت اللّغاتِ جميعاً إلى تأسيس بنيةٍ لغوية معرفية متطورة جداً في الزمن القديم، فقُدمت جهودٌ معجمية كبيرة تجلت أبلغُ صورها عند الخليل بن أحمد الفراهيدي المولود في عُمانَ سنة (100هـ) والمُتوفى في البصرة سنة (180هـ)، الذي وضع أوّلَ معجم في اللّغة العربية، وهو كتاب (العين)، ورتب فيه أصولَ اللّغة بحسب مخارج الحروف، وهو ترتيب ظهر فيه خلاف يسيرٌ عن ترتيب دارسي الأصوات في وقتنا الحالي، كعدِهِ حرفَ العين أقصى الأصواتِ مخرجاً، في حين قال المحدثون بل هو الهاء، على أن جهودَ الخليل تبقى مهمةً في هذا الباب لاكتسابها صفةَ السبق والريادة في باب الترتيب الصوتي للغة، وتجب الإشارةُ إلى أن العربيةَ تمتلك من المعجمات ما يمكننا من بناء قاعدة لغوية رقمية جيدة، فهنالك معجماتٌ للألفاظ ومعجمات للمعاني ومعجمات مجازية ومعجمات للأعلام وللمصطلحات وللأماكن، وهذا كلُّه مما صنعه العربُ في الزمن القديم، على أنّ القاعدةَ اللغوية الرقميةَ لا تكتفي بهذه المواد، لأنها بحاجة إلى روافدَ علميةٍ وفكرية وأدبيةٍ متنوعة تمكنها من ِشغل مكانة مرموقة بين اللغات الرقمية، والحقُّ أن اللّغةَ العربية تفتقر اليوم إلى هذا الضرب من المعجمات الرقمية، فهي لا تمتلك قاعدةً لغوية تتيح استخدامَها على نحو فاعل على الشابكة (الإنترنت)، بعد أن استكملت معظمُ اللّغات العالميةِ هذه القاعدةَ وبدأت بإنجازِ مشاريعَ معرفية ضخمة.
– إنّ القاعدة اللّغويةَ هي مجموعة كبيرة من النصوص المكتوبة أو المنطوقة التي ترد بطريق الكتب والمجلات والصحف والتقارير والأخبار لتكوّن الصورةَ الكلّيةَ للغة على الشابكة (الإنترنت)، وهذه المواد اللّغويةُ تمثل قاعدةَ بيانات لكلّ لغة، إذ يمكن معالجةُ تلك البيانات آلياً، ويمكن رفدُها بكلّ جديد على الدوام، لتلبي حاجةَ أصحاب اللّغة كمعرفة أصول الكلمات وعلاقاتها باللّغات الأخرى، وهذا غيرُ متاح حالياً في اللّغة العربية.
– اللّغة العربية لا تمتلك نصوصاً رقمية ذكية ًكما يذكر البروفسور اليمني حبيب سروري، إذ النّص الرقميُّ يصل بين شبكات حاسوبية متعددة، ويمتاز بدقة فائقة تتضافر فيه وسائطُ مختلفةٌ كالصوت والصورة والفيديو بشكل تفاعلي محكمِ الإخراج ومتعددِ الأبعاد وعميقِ المحتوى، وهو من ثمَّ نص مفتوحٌ مزوّد بوصلات وخطوط ٍ تسمح للقارئ بالانتقال إلى مواضعَ أخرى في النّص نفسه أو أيِّ نصٍّ في حاسوب آخر وفي أي مكان، كما تمكّن تلك الوصلاتُ القارئَ من الاطلاع على قواميسَ متعددةٍ وتزوده بمعلوماتٍ متنوعة، كما يمكن الوصولُ إليه من أيِّ حاسب مهما تناءت المسافاتُ، وهذه السمة معروفة بالحوسبة السحابية، والنّص الرقمي نص مفهرس تُصنف فيه جميعُ الكلمات بوساطة محركات البحث الكونية، فمحركُ البحث (غوغل) يختزن أكثرَ من خمسةٍ وعشرين مليار نص ومليارِ صورة موزعة ٍعلى نصف مليون حاسوب في اثنين وثلاثين موقعاً جغرافياً، وهذه الوسائلُ لا تحتاج من القارئ سوى إدخالِ كلمةٍ أو بضعِ كلمات ليجدَ نفسه في ثوانٍ قليلةٍ أمام معارفَ لا تنحصر معروضةٍ أمامَه على شاشة حاسبه.
هنا تبرز مشكلة الترجمة الآلية كيف يمكننا التغلب عليها؟
كما ذكرت أن ثمّةَ عائقاً يحولُ من دون أن تأخذَ العربيةُ مداها في العالم الرقمي وهو نقص الترجمةِ الآلية لافتقارها إلى الحاسوبيات اللّغوية التي تتيح الترجمةَ بصورة فورية ومن دون مترجم وبسرعة فائقة للحصول على نص سريع، لذا لا توجد برمجياتٌ عربية تستطيع ترجمةَ كتاب كامل بسرعة، لهذا فإنّ معظمَ الكتب العلمية الحديثة غيرُ مترجم إلى العربية، يضاف إلى ذلك أنّ معظمَ اللّغاتِ تمتلك قارئاً ضوئياً آلياً (سكنر) يحوّل النّصَ المصورَ بعدسة تصوير إلى نص رقمي يمكن فتحُه وأرشفتُه إلكترونياً ومن ثم إرسالُه إلى الشابكة ليصل إلى أصقاع الأرض.
العالم الرقمي مجتمع تعاوني
ما سبق يشير بوضوح إلى أنَ العربية تفتقر إلى وسائلَ تكنولوجيةٍ كبيرة تحتاج إلى تضافر جهود عربية مشتركة، برأيك كيف يمكن التغلب على هذا العائق؟
يمكن أن يثبتَ فاعليتها في العالم الرقمي لو توافرت العزيمةُ لذلك، ومعلوم أنّ تلك الوسائل لا تتوافر إلا من خلال تضافرِ جهود تبذلها مؤسساتٌ ضخمةٌ وفي غير ما بلد عربي، كالمؤسسات التعليمية بمراحلها المختلفة على اعتبارها المهيئةَ فعلياً لهذا الصنيع، وهو أمر لا ينجم بغير وعي عميق بأهمية رقمنة اللّغة العربية.
ولكن ماذا نفعل نحن على المستوى الفردي في إعاقة اللغة العربية رقمياً؟
نحن عملياً نستعمل الشابكة الإنترنت بغرض التواصل والمتعة وفي أحايين نادرة للمعرفة، ونجد سهولةً في النشر الإلكتروني والدردشةِ والتصفحِ ومتابعةِ الأخبار والتعليقات ونستعمل البريد الإلكتروني والواتس آب والفيس بوك وغير ذلك، ولا نكلف أنفسنا إتقانَ ما نكتبُهُ أو ننطقُهُ بطريق الإنترنت، وغالباً ما نستعمل العاميةَ وفي أحسن الأحوال ندون الكلماتِ خطأ من الناحيتين الإملائية والنّحوية، والمهتمون بهذه الظاهرة يقولون: إنّ ما دُوّن خطأً سواءٌ أكان من ناحية الإملاء أو النّحو، أم كان بالعامية هو أضعافٌ مضاعفةٌ مما هو مكتوب بالعربية البسيطة القريبة من الصحة، والخطورة الكامنة وراء هذه المسألة أشبهُ بكارثة تدمر المساحةَ الضئيلة التي تشغلها العربيةُ الفصيحة في الإنترنت، وهي مساحة لا تتجاوز ثلاثة بالمئة مما تشغله بقيةُ اللّغات، وبما أنّ اللّغة العربية لا تمتلك مُصححاً آلياً في الشابكة (الإنترنت)، فإنّ الكثرة التي تمثلها الألفاظُ الخاطئةُ والعامية ستحُلُّ محلَ الكلماتِ الصحيحةِ لغلبتها الإحصائية، وعندما تحدث معالجةٌ إلكترونية للغة العربية في الإنترنت مستقبلاً، ربما بطريق الأجيال القادمة، سيتم إقصاءُ الكلماتِ العربية الصحيحةِ بحسب مبدأ الانتقاء الطبيعي الدارويني، والخطورة في الأمر أنّ كلّ كلمة ندونها على صفحات الشابكة (الإنترنت) تؤرشف تلقائياً، لتكوّن الرصيدَ الفعلي للغة العربية مستقبلاً.
وعي للتحدث باللغة الفصحى الميسرة
برأيك كيف يمكننا التغلب على معوقات تمكين اللغة في واقعنا البحثي والتعليمي؟
من الواضح أن المشكلات التي تعصف باللغة العربية اليوم ليست يسيرة، وللأسف أنّ هنالك معوقاتٍ جمّةً إضافة لما ذكرته آنفاً تحول من دون انطلاقها بصورة مقبولة في عالم الإنترنت، تشكل أزمات محبطة لمن يتطلع إلى تطوير اللّغة عن طريق الإنترنت، فلدينا أزمة في التعليم وفي الترجمة وفي الإنتاج الفكري، إضافة لافتقار العربية رقمياً إلى قارئ ضوئي ومدونة لغوية وترجمة فورية وبرنامج تصحيح آلي ومحركات بحث ومشاريع رقمية، وبالمقابل هنالك حوافز على تطوير اللّغة إن صح منا العزم كأنْ تكون العربية اللّغة الرابعة في العالم من حيث الاستعمالُ في الشابكة (الإنترنت) والخامسة من حيث عددُ متكلميها، والسادسة في منظمات الأمم المتحدة، وهذا كلّه بالطبع لا يكفي، لأنّها تحتاج منا حالياً إلى وعي لغوي يحفزنا على استعمال اللغة الفصحى الميسرة والتوسع في نشر الأبحاث العلمية والاعتماد على المقاربات المعرفية في تنمية اللّغة والاهتمام بنشر العلوم العصبية والأناسة واللسانيات المعرفية وعلم النفس المعرفي والبحث التكنولوجي الجيني والأركيولوجيا وتكنولوجيا النانو وتكنولوجيا المعلومات والمدونات القيمة التي تضيف معلومات دقيقة ومفيدة إلى اللغة، لأنّ ما نكتبه يشكّل في الحقيقة الحصن اللّغوي الذي نريد نقله إلى الأجيال القادمة، وهذه الأجيال ستتلقى اللّغة مستقبلاً بالتقنية الرقمية.
التاريخ: الثلاثاء22-2-2022
رقم العدد :1084