دمشق- مازن جلال خيربك:
لا يختلف اثنان على دور الإنتاج في النهوض بأي اقتصاد في العالم، ولعل الإنتاج جاء هنا كمصطلح وليس ككلمة بمعناها المحدد، إذ إنه يعني اقتصادياً العمل المفرز للسلع والخدمات بشقيها المادي والفكري، بالنظر إلى قيام مهن غير مادية باتت جزءا لا يتجزأ بل وتوازي السلع المادية أهمية في بنية الاقتصاد.
خلال عقود لم يكن الإنتاج غير المنظّم غائباً عن الاقتصاد السوري، بل كان موجوداً وبقوة ورافدا رئيسيا من روافد الخزينة العامة للدولة، ولعل الصادرات السورية كانت في سنوات خلت أقدر على المنافسة خارجيا لكونها ناجمة عن سعر منافس وهو بطبيعة الحال متأتٍّ من عمالة لم تكن مسجلة على اللوائح الرسمية، ولكنها كانت عاملة وتؤدي دورها في الإنتاج ودورة رأس المال في الأسواق السورية، لكون العامل غير المسجل في التأمينات الاجتماعية أو غير المصنّف ضريبياً مثلاً يعمل وينتج ويتقاضى أجراً طيباً يشبع به إنفاقه على حاجاته ما يعني يستهلك، وهو أمر يتطلب إنتاج سلع أخرى تستلزم بدورها عمالة وتدفع ضرائب وتستجر مواد أولية، وهكذا دواليك إلى أن تعود الكرّة على شكل انتعاش اقتصادي مجدد، فتكون الأجور والمحفزات أقوى وبالتالي الإنفاق أكثر والاستهلاك أكبر، ولا يغيب عن الذهن أن غض البصر عنها طوال عقود كان للفوائد الكبرى التي تحققها للاقتصاد الوطني.
وعلى العكس من ذلك اليوم، يتم التعامل مع مفهوم الإنتاج بمعناه الضيق، أي السلع والمنتجات المادية الناجمة عن الصناعة والحرف سواء كانت عبر ورشات أم معامل لا فرق، في حين أن الإنتاج في ظروف سورية الحالية يتجاوز ذلك بكثير، فمع الدمار الذي طال مرافق كثيرة ومنشآت لا تعد ولا تحصى نتيجة الإرهاب، بات الكثير الكثير من السوريين يعمل من بيته أو عبر مراكز مشتركة لمجموعة من العاملين في نفس المهنة، بدءاً من الصيدلية التي يتناوب على العمل فيها بضعة صيادلة، وصولاً إلى المهن العلمية من المحاسب إلى فني الحاسب وسواها من المهن الفكرية والعلمية، وهي مهن تحتاج بالدرجة الأولى إلى الخدمات الأساسية حتى تكون قادرة على العمل والإنتاج باعتبارها مكونا رئيسيا من مكونات الاقتصاد الوطني، ولا نذيع سراً إن قلنا إن أبرز هذه الخدمات هي الكهرباء والاتصالات بشقيها المسموعة والرقمية، الأمر الذي يستلزم توفر هذه الخدمات لأن المسالة ليست متصلة فقط بدخل العاملين فيها، بل تتصل بمكون هام من مكونات الاقتصاد الذي نبحث يومياً عن السبل الكفيلة بنهوضه وتنميته.
العمل من خارج المقرات الرئيسية للأعمال كما كان الحال قبل الحرب الحالية وما عاثه الارهاب فساداً وتدميراً في بنيان وعمران سورية، بات أمراً واقعاً، ولم تعد الغالبية قادرة على النهوض بتكاليف المكاتب والمقرات المستأجرة التي يعرف القاصي والداني أوجاع السوريين معها ومنها، وبالتالي لا مناص من توفير مستلزمات الإنتاج لهذه الفئة حفاظاً عليها وحفاظاً على ما تقدمه من خدمات ومردود للاقتصاد الوطني، حتى ينهض التكامل بين كل مفاصل الإنتاج وتكون لبنة أساسية او حجر زاوية صلب ينهض عليه الاقتصاد الوطني.
المسألة ليست صعبة وممكنة التحقيق ولكنها تحتاج أول ما تحتاج المرونة في التعامل معها، كما تحتاج دراسة حقيقية وتصنيفا دقيقا لنوعية المهن والأعمال القائمة بهذه الطريقة، وبالتالي توفير الخدمات اللازمة لها..
أما الأهم، فهو عدم تعليق الأمور على شمّاعة الأزمة وظروفها وما أفرزته، فالحرب قد مضى عليها ما يزيد على سنوات عشر بسنة، وبات من المعيب التذرّع بها وعدم القدرة على التكيّف مع ظروفها، لأن التكيّف مع ظروفها أول خطوات في طريق التغلّب على نتائجها.