الملحق الثقافي – سهيلة اسماعيل:
يقول الشاعر الفرنسي جان كوكتو في فيلم صوَّر فيه جنازته مسبقاً موجهاً كلامه لأصدقائه: «لا تبكوا هكذا، تظاهروا فقط بالبكاء، فالشعراء لا يموتون. إنَّهم يتظاهرون بالموت فقط «.
فإن غاب الشعراء تحضر أشعارهم لتخلدهم عبر الزمن. لأنهم يقرضون الشعر يهبونه جمالاً من جمال أرواحهم، فيبقى صدى كلماتهم يطرق آذان المعجبين والمعذبين في الأرض، ويقض مضاجع الحكام والظالمين. وتصبح قصائدهم مع الزمن أكاليل غار وإيقونات عطر تزين ذكراهم.
صحيح أن الموت غيَّب الشاعر العراقي الثائر الغاضب مظفر النواب منذ أيام. لكنَّ شعره حضر في تشييع جنازته وفي الحزن المرتسم على وجوه المشيعين. حضر بكامل أناقته، ورغم ما تعرض له الشاعر من نفي وتعذيب في السجن حافظ على مبادئه وتمسك بها، فأخلص له ما أكسبه حب العراقيين ومحبي الشعر في الوطن العربي، وإذا كان النفيُّ إبعاداً وإقصاءً عن مسقط الرأس، ظلَّ حب بلده هاجساً يرافقه أنَّى حلَّ وارتحل فيقول في قصيدة وتريات ليلية:
يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق
على ظلمة أيامي
أحمل لبلادي
حين ينام الناس سلامي
للخط الكوفيّ يتم صلاة الصبح
بافريز جوامعها
لشوارعها
للصبر
ولأن الشعراء يتنبؤون بحدسهم الصادق مستقيلهم، فقد خشي النواب ألا يموت في بلده، وتحققت نبواءته ومات بعيداً عن العراق حيث قال في قصيدة عن «دمشق»:
أصابحُ الليلَ مصلوباً على أمل
أن لا أموت غريباً ميتةَ الشبح.
والنواب ليس الشاعر الوحيد الذي مات بعيداً عن العراق فقد سبقه شعراء كثُر أمثال الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والدكتور مصطفى جمال الدين المدفون في دمشق أيضاً، والشاعر عبد الوهاب البياتي، والشاعر بدر شاكر السياب الذي قال مغنياً ومشتاقاً للعراق في قصيدة من أروع ما كتب «غريب على الخليج»:
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق»
«أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه
يا أنتما – مصباح روحي أنتما – وأتى المساء
والليل أطبق، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
الملتقى بك والعراق على يديّ.. هو اللقاء
شوق يخضّ دمي إليه، كأن كل دمي اشتهاء
وبالتأكيد حضرت أشعارهم جميعاً عند تشييع جنازاتهم، سواء في بلدهم أو في بلدان أخرى لأن القصيدة لا تعرف الحدود ولا تحتاج إلى جواز سفر.
ولا ننسى الشاعرة نازك الملائكة التي ماتت بعيدة عن العراق ومن أجمل ما قالت:
ونحن ما زلنا كما كنا أولئك الحمقى
الليل يمضي ساخراً منا والفجر يروي للدجى
أنّا نشرب ما نُسقى.
رقم العدد 1097
التاريخ: 31/5/2022