الثورة – فؤاد مسعد:
غريب هو أمر أعمالنا الدرامية وكأن الحرب التي شنت على سورية جرت في مكان آخر، فرغم أن العديد منها تناول تداعيات الحرب بشكل أو بآخر، إلا أنه لا يزال هناك الكثير الذي يمكن أن يُحكى حول حرب تركت جروحاً غائرة، فما قُدم لا يكفي وجاء أدنى من المأمول (على الأقل على صعيد الكم) والحاجة اليوم إلى أعمال تحاكي هذا الجانب خاصة على الصعيدين الاجتماعي والإنساني لتعكس ما خلّفته الحرب من آثار على الناس في مختلف مناحي الحياة، وهو الأمر البعيد بشكل كبير عن أعمالنا إلا في حالات قليلة.
هناك المصابون في الحرب ومن فقد يده أو ساقه، هناك الشهيد الحي ومن استشهد من مدنيين وعسكريين، وهناك من فقد عمله ومن هجّر من منزله وبعد الحرب وجد منزله أنقاضاً وليس لديه ثمن إعماره من جديد، هناك الأم التي تعالج ابنها وتدور به منذ سنوات من مستشفى إلى أخرى بسبب شظية رست في مكان عصيب من جسده وتأبى الخروج بسهولة، هناك الابن ذو العشر سنوات الذي خرج إلى سوق العمل ليعيل أسرته بعد أن بات هو رجلها وما يتعرض له من مصاعب وربما استغلال من أصحاب النفوس الضعيفة والجشعة، وهناك العروس التي تحمل صغيرها بعد أن باتت أرملة شابة أو زوجة شهيد حي عليها أن تعيل العائلة وتربي ابنها وتكون العطوفة الحنونة على زوجها الذي يمر بأزمة نفسية بسبب ما أصابه جراء رصاصة قناص خرقت عموده الفقري، هناك الرجل العجوز الذي بات بلا مأوى والسيدة التي جار عليها الزمان بعد حرب جعلتها وحيدة، هناك شباب هاجروا بعيداً تاركين وراءهم عجائز يقضون ساعات ودمعة الذكريات لا تجف من أعينهم وليس أمامهم سوى عد الأيام ويدعون الله صباح مساء أن يروا من سافروا من جديد ولو للحظات قبل إطلاق النفس الأخير، هناك وهناك.. هي حكايات ماثلة أمامنا كيفما اتجهنا لنماذج إنسانية امتلكت في غالبيتها إرادة الحياة والاستمرار ومقارعة المستحيل، ولكن السؤال الموجع: هل عجز الكتّاب عن ترجمتها كقصص وسيناريوهات يتم تضمينها بشكل أو بآخر ضمن أعمالهم؟..
إنه معين لا ينضب من الحالات الإنسانية وخزان من الموضوعات التي تلامس الكثير من الناس بحميمية وحرارة، فقط أغرِفوا منها وانتقوا ما تشاؤون فككوا تفاصيلها وأعيدوا بناءها ضمن حكايات إنسانية تحمل عناصر تشويقها ضمن إطار فني جاذب، عشّقوها مع حكايات أخرى لتُظهر نسيجاً مجتمعياً متكاملاً بكل ما فيه من فسيفساء تشكّل في مجملها اللوحة الكاملة وقدموها بروح مسؤولة لإنجاز أعمال واقعية وقريبة من الناس، هناك أوجاع وآمال وضحكات حقيقية رغم الألم تكلموا عنها ودعونا نرى أنفسنا أو جيراننا أو أقرباءنا على الشاشة عوضاً من رؤية أشخاص لا نعرفهم ولم نلتقِ بأشباههم يوماً، كونوا الصوت الصارخ الذي يطرق الأبواب بقوته الناعمة، بشفافيته المرهفة وإنسانيته الموجعة، كونوا نحن وأنتم، بعيداً عن التركيبات المُضحكة والمُصطنعة والمشاهد الكرتونية والثرثرة والتصوير في (الفيلات) أو (العشوائيات)، كفى دراما تعيش غربتها عن مشاهديها ولتقتحم كاميراتكم الواقع الحقيقي وتكون أكثر التصاقاً به، مدوا أيديكم والتقطوا وانهلوا من تلك الصور وانسجوا منها ما يؤرخ للمجتمع والحياة والإنسان بكل تجلياته بعد حرب مؤلمة وحصار جائر، فهكذا يُكتب التاريخ للأجيال، بلغة وقودها الروح، نابعة من قلب يفيض حباً وإبداعاً.
وإن كنا نتفهم متطلبات السوق والمحطات التي تطلب في غالبيتها وبصريح الكلام الابتعاد عن الحرب وتداعياتها، إلا أن ما لا يمكن تفهمه هو استبعاد هؤلاء عن الأعمال الدرامية، فهم مغيبون عنها لصالح إنجاز أعمال أخرى قد تكون ضرورية كونها تحقق حالة من التنوع ضمن خارطة إنتاج متكاملة للموسم الدرامي ولكن من الأهمية بمكان عدم إهمال أحد أهم عناصرها ومكوناتها كي لا تبدو على أنها خارطة عرجاء وبعين واحدة.