الرسوم المتحركة باتت أمراً واقعاً في حياة أطفالنا.. لا هو بالخير، ولا هو بالشر.. لأن له تقييماً آخر من هذه الناحية.. وهذا الواقع فرضه التلفاز أولاً، والسينما، ومن ثم الشاشات التي أصبحت تعبر القارات، واستأنس بها أطفالنا، بل أصبحت جزءاً من حياتهم.. ونحن إذ نمر من أمامهم وهم يشاهدون تلك الرسوم الغربية نجدهم يندهشون، وقد ينفجرون ضاحكين، وربما يصرخون انفعالاً آنياً بما يشاهدون.. إلا أنهم لا يبكون أمام مشهد حزين، بل إنهم لا يتأثرون.. لماذا؟ ذلك لأن هذه الأفلام لم تُصنع أساساً لهم لتحكي عن مشكلاتهم في بيئاتهم التي تختلف عن بيئة الطفل الغربي، ولا هي تُلتقط من العوالم التي يعيشون فيها، أو حتى من شخوص الحيوانات التي يألفونها من حولهم، أو الأبطال من النماذج الإنسانية التي يرونها، أو يقرؤون عنها، أو يسمعون.. بل هي (بضاعة)، أو (سلعة) تورَّد إلينا مثل كل بضاعة، أو سلعة مستوردة، إلا أنها كما يبدو لا تأتي إلا بالتسلية، والتسلية فقط، بينما هي تنتزع منا أطفالنا لتقذف بهم في أجواء غريبة عنا لا نفع فيها سوى أنها تمتعهم، وتلهيهم فترة من الزمن ثم ينتهي تأثيرها، هذا إذا كانت من الأفلام الجيدة، والتي تنتجها شركات على مستوى عالٍ من الإنتاج.. أما إذا كان الأمر غير ذلك، وهبطت إلى الدرجة التجارية فمعنى هذا أن هناك العنف، والإثارة إلى حد الانفجار، والقصص البوليسية التافهة، واستغلال للخيال العلمي بشكل غير علمي على الإطلاق، وما أصبح يضاف إليها مؤخراً من أفكار تجنح بشكل سافر وعلني نحو الانحراف السلوكي والقيمي، ومنها مايبرر (المثلية)، ويدعو إلى قبولها وهي تتسرب إلى اللاوعي.. والأخطر من ذلك هي تلك الألعاب الإلكترونية التي أصبحت تروّج هي الأخرى لمثل هذه الأفكار الهدّامة التي تنحرف بالطفل عموماً، وباليافع نحو اضطرابات نفسية تنعكس سلوكاً شاذاً.
إذن فهذه الأفلام لا تخدم طفلنا العربي بقدر ما تخدم صنّاعها في الترويج لما يهدفون إليه، أو أنها صنعت خصيصاً لأبناء تلك المجتمعات، وليس لسواها، وبما يتناسب مع قيمها، وأساليب عيشها، وبما يدرجونه تحت مسميات حرية التعبير، وقبول الآخر.
ولمّا كان هذا العالم الجديد الذي برع في صناعة الأفلام، وما أصبح يخدمها به مما لديه من تقنيات متطورة، هو جديد في تراثه، ولا يملك كغيره من تراث عريق له رموزه، وأبطاله، فقد اخترع لنفسه قصصاً، وخلق أبطالاً وكأنهم من الأساطير، وكرّس لأنسنة الحيوانات التي تعيش في بيئته.. فهل ينطبق هذا الأمر علينا ونحن نملك تراثاً عريقاً، غنياً، وكتبنا تزخر بألوف الحكايات، والأساطير، وسحر كتاب (ألف ليلة وليلة) ما زال يطوف بيننا حتى أن السينما الأميركية لم تجد خيالاً يضاهيه روعة، وخصوبة، فاستعارت من وهجه قصصاً لتنسج منها على هواها أشهر الأفلام التي غدت عالمية بما حصدته من جوائز ذهبية كقصة (علاء الدين والفانوس السحري).. بينما نحن لا نزال نحبس المارد في قمقمه، ونحبس معه أكثر القصص سحراً، وتشويقاً للأطفال على مدى الأجيال.
أما آن الأوان لتلتفت المؤسسات الثقافية، والفنية، والإعلامية في عالمنا العربي إلى ضرورة إنتاج أعمال تُرصد خصيصاً لأطفالنا.. تمتعهم، وتسليهم، إضافة إلى كونها قناةً مهمة ننفذ من خلالها إلى ترسيخ قيمنا، وإلى إعادة النظر في تاريخنا، كما استلهام ماضينا بأساليب مشوقة، وحكايات مغزولة بتأنٍ وحرفية، ولا شك أننا عند ذاك سوف نستميل أطفالنا نحوها، ونبني جسوراً بينهم وبين ما يعيشونه، كما بين بعضهم بعضاً.. فأي قصة دينية، أو حكاية شعبية، أو سيرة بطل من أبطالنا قادرة على أن تحقق الكثير لاسيما إذا قام الحوار بين الأطفال وأهاليهم المتشبعين بها، أو على الأقل الذاكرين لها، ومما يساعد على ذلك أن تاريخ العرب ورموزه المشتركة يصعب الفصل بينها، أو إعطاؤها صفة المحلية، أو الإقليمية.. هذا بالإضافة إلى اللغة المفترضة ألا وهي العربية التي توحد بين أقطارنا مع المراعاة طبعاً للغة الطفل الخاصة به السهلة، والمبسطة، والتي تبتعد عن التعابير المركبة، والتي تتجاوز المراحل العمرية للطفولة.
وها هي الأمم العريقة التي تنبهت إلى هذا الأمر قد صنعت لأبنائها من الصغار إنتاجاً فنياً مستوحى من تراثها الشعبي، ومن أساطيرها كما هو الحال لدى الروس، والصينيين، واليابانيين، وغيرهم.. ورغم أنهم أسقطوا نظرات معاصرة على تلك الأعمال إلا أنها ظلت تحتفظ بملامحها الأصلية، وتُقدم للطفولة في بلادهم على أنها من نسيج حياتهم.
إن تحركنا نحو فنون الطفل من رسوم متحركة، أو دراما سينمائية، وتلفزيونية بات أمراً ضرورياً لا استغناء عنه كبديل عما هو من المستورد، وكسبيل لغرس القيم على اختلافها، وصقل للغة، وإغناء للمعرفة.. ومادام الإنسان ابن بيئته فإن هذه الخطوة عند تحققها ستجعل أطفالنا ينشؤون في تفاهم مع بيئاتهم إن لم نقل متطابقين معها.. وما علينا إلا أن نتحول عن ذلك المستورد الرديء بالرغم من بريقه حتى لا نقطع حبال الاتصال مع ما نريده لأطفالنا، وحتى لا يصبحوا غرباء عنا، وعن أنفسهم.
* * *