الملحق الثقافي – مها محفوض محمد:
26 ديسمبر 1948، يوم الأحد على الساعة العاشرة ليلاً،أكثر من 850 رسالة من رسائل كامو جرى الحديث عنها منذ فترة ، وقد عمل على ترجمة الكثير منها الروائي العربي واسيني الأعرج ونشر على صفحته الشخصية الكثير منها ، ألبير كامو الروائي والفيلسوف الفرنسي الذي شغل العالم بمواقفه وفكره ، يرى أن الحب هو الاقدس ، وأي كتاب مهما كان كبيراً فكلمة الحب تعني كلّ شيء فيه ، رسائله كنز ثقافي ومعرفي و لنقرأ هذه الرسالة إلى حبيبته :
(افتقادك هو نهايتي الأكيدة يوم بائس. وصلت في هذا الصباح (إلى الجزائر العاصمة) دون أن أتمكن من النوم. كانت الطائرة تشق طريقها من بين النجوم، بنعومة. تحتنا سكينة جزر الباليار، والبحر المليء بالأنوار. فكرت فيك.
قضيتُ يومي كلّه في عيادة المدينة في مواجهة صرخات امرأة عجوز (خالته) لم تكن تدري أنها على حافة القبر. من حسن الطالع أن أمي كانت هناك. فقد نجت من كلّ شيء بسبب طيبتها و (منها علمت أن الأمور بخير).
هذا المساء، رغبت في السير في المدينة. كانت فارغة كما هي عادتها بعد التاسعة ليلا. الأمطار هنا، عنيفة وزمنها قصير. وأنا أمشي في هذه المدينة المهجورة، شعرت بنفسي كأني في آخر الدنيا. مع أنها مدينتي؟ عندما دخلت إلى غرفتي (أقيم في فندق) خيل لي في لحظة من اللحظات، أني سألقاك هناك، وأننا سنعيش معا شيئاً مذهلاً، لكن الغرفة كانت فارغة، فبدأت في الكتابة لك.
لم تغادريني منذ البارحة. لم أشعر أبداً بالرغبة فيك وحبك، بذلك القدر من الشراسة، في السماء ليلاً، في الفجر، في المطار، في هذه المدينة التي أحسني الآن غريباً فيها، تحت المطر، في الميناء… افتقادك هو نهايتي أيضاً. هذا هو جوابي الذي أردته صرخة ما دمتِ قد طلبت مني ذلك.
ولكن يجب أن انام. أكاد أنهار من قلة النوم. لكني أردت فقط قبل ذلك، أن أقاسمك انشغالات يوم مؤثث بك. سأبقى هنا حتى إجراء العملية الثانية (سافر إلى الجزائر لحضور عملية جراحية أجرتها خالته)، حوالي العشرة أيام. أكتبي لي. تلاحقني الأحاسيس السيئة، التي تدفع بي أحيانا إلى فقدان الأمل، فلا تتركيني وحيداً.
آه حبيبتي، لو فقط تدرين، كم أنا في حاجة ماسة إليك. أشعر بنعومة حملك في داخلي مثل هذا المساء حيث أشتهي أن أموت نوماً وحناناً.
أقبلك حبيبتي. طويلاً مع السماح لك طبعاً بالتنفس قليلاً).
وجه آخر تكشفه رسائل الحب التي ظهرت منذ فترة للفيلسوف والكاتب الروائي ألبير كامو الذي أبدع في الفلسفة والأدب وفي الرواية والمسرح كما في السياسة والصحافة.
كامو (1913-1960) الذي عرفته الأوساط الثقافية هو أحد من أقطاب الفكر الفلسفي والسياسي التحرري ورمز للفلسفة الوجودية مع سارتر، ثم العبثية التي ارتبط اسمه بها بعد صدور روايته «الغريب» التي أدرجت ضمن قائمة أفضل مئة كتاب في تاريخ الأدب والأكثر تأثيراً في القرن العشرين وأسست لفكر العبثية في الأدب الغربي. اتخذت أعماله مسارين هما العبث والتمرد. تميز بقوة البصيرة والقدرة على التعبير وقوة الموقف السياسي – الأخلاقي ما وضعه في مصاف عظماء التراث الفرنسي فكان له الأثر الكبير على خيارات أبناء جيله وما بعده، لقد رأت فيه سيمون دو بوفوار المنافس الأدبي لسارتر وكانت تشعر بالضيق والقلق لافتتان الأخير بكامو قبل حصول القطيعة بينهما، كما أنها قدمت نفسها كعاشقة لكامو لكنه لم يأبه لها فاشتكت بأنه فظ معها لأنه لا يمكن أن يقبلها نداً ثقافياً له، ولم تعلم أنه قال عنها ذات مرة إلى آرثر كويستلر: «تخيل ماذا عساها أن تقول بعد ذلك وهي على الوسادة، يالهول مثل هذه المرأة المثقفة الثرثارة إنها شيء لا يحتمل»، لكنهما لم يتوقفا عن تبادل الآراء حول الكثير من القضايا وبحضور سارتر أحياناً.
بعد ذلك بمدة باح لها عن آلام الحب الذي يكنه لفتاة أخرى، تلك التي تضج اليوم أوساط الصحافة الفرنسية بنشر رسائلهما المتبادلة للمرة الأولى بمبادرة من ابنته كاترين التي ترددت طويلاً في نشر رسائل أبيها إلى عشيقته ماريا كازاري لتكشف عن مجموعة من أدب الحب المتوهج للكاتب الفيلسوف.
865 رسالة على مدى اثني عشر عاماً تم الحفاظ عليها بأعجوبة وبعد ستين عاماً تنشر بكاملها تحت عنوان: «رسائلهم تجعل العالم رحباً والفضاء مضيئاً والهواء رقيقاً» ضمن كتاب صادر عن دار غاليمار يتألف من 1200 صفحة ويعد مستنداً استثنائياً بحسب صحيفة لوفيغارو.
تقول كاترين كامو في مقدمة الكتاب: «اثنا عشر عاماً من رسائل ملتهبة لم تنقطع تشهد تماماً على عاطفة حارة وحب لا يقاوم بينهما».
في 19 آذار من العام 1944 يلتقي البير كامو مع ماريا كازاري ابنة آخر رئيس حكومة للجمهورية الإسبانية في المنفى وعمرها آنذاك 21 عاماً وهو في الثلاثين حيث بدأت عملها في المسرح قبل عامين، وفي ذلك الوقت كان كامو بصدد نشر روايته « الغريب» في دار غاليمار وكان يعيش وحده في باريس حيث ترك زوجته فرانسين في الجزائر بسبب الاحتلال الألماني لفرنسا، تأثر بموهبة الممثلة فعهد إليها بدور «مارثا» في عرض مسرحيته «سوء تفاهم» ولم تكن تلك الليلة سوى بداية لقصة حب كبير، لكن وفي نهاية ذلك العام تعود زوجته وولداه التوءم إلى باريس فتنقطع عنه ماريا ويحزن كثيراً فيكتب لها: «حيثما توجهت لا أتبين سوى الليل فمن دونك لم يعد لدي قوة أعتقد أنني أرغب بالموت».
ويستمر الانقطاع أربع سنوات إلى أن يلتقيا مصادفة في 6 حزيران 1948 في بولفار سان جيرمان في باريس ويتساءلان: «لماذا أعادنا القدر وجهاً لوجه ذات لحظة». بعدها لم يفترقا أبداً وتصبح رسائلهما شبه يومية لم تتوقف إلا بالموت المفاجئ للكاتب بحادث سير عام 1960.
تقول صحيفة لوفيغارو التي نشرت مقتطفات من هذه الرسائل: مع أنهما كانا يتحدثان فيها عن العمل لكن العاطفة المتقدة وشغف المتيم يغلب على كل شيء فيها يخاطبها: «حبيبتي الغالية أنت توازني، أنت الحقيقة التي تغنيني» فتكتب له: «حبي الغالي أنتظر الدهشة التي تتجدد دوماً بحضورك».
الاثنان كانا على يقين بأن الموت وحده فقط الذي يفرق بينهما حيث يؤكد ذلك كامو بالقول: «لقد صممت نهائياً أننا اجتمعنا للأبد فتجيبه أعلم أنه مهما حصل فإننا سنعيش وسنموت معاً».
الرسائل تتقاطع في التعبير عن حدة العلاقة المثيرة واختبار شوق الغياب واحتراق متعة اللحظات المتبادلة للتعبير المطلق عن الحب الحقيقي وبلوغ المرام وخاصة في الأسابيع الطويلة التي كانا يبتعدان فيها بسبب العمل، المؤتمرات التي كان يذهب إليها كامو في أميركا الجنوبية أو ذهابه لقضاء العطلة مع عائلته، وهي أيضاً كان لديها جدول أعمال جنوني، تسجيلات للراديو وتدريب على المسرح فقد كانت شغوفة بالكوميديا ثم بالمسرح الوطني الشعبي فهي ممثلة كبيرة أدت أدواراً مهمة كدور فيكتوريا في «حالة حصار» ومسرحيات أخرى لكامو، ويوم حققت نجاحاً باهراً في جولة لها بالأرجنتين عام 1957 كتبت له: «حتى في كلمة الشكر التي قدمتها كنت ألفظها وأنا أفكر بك».
أسبوع بعدها توج كامو بجائزة نوبل للآداب فأرسل لها تلغرافاً يقول فيه: «لم أشعر بالاشتياق إليك كما شعرت في هذه اللحظات»، فالحب بين الممثلة والأديب الكبير شكل حالة انصهار، فهو اقتران لقلبين متيمين وشراكة بين روحين توءمين وعلاقة شبه صوفية. تكتب له في 21 حزيران 1949: «أتراني أصرخ من دون صوت أو القيام بحركة خلال الليل لماذا؟ هي من أجل الآخر هي من أجلك لأتمكن من إيجادك على هذه الأرض وكيف كنت سأتعرف إليك إن لم تكن الوحيد الذي سألتقيه في وحدتي».
ويروي كامو: «كنا على قدر المساواة واضحين قادرين على فهم كل شيء ومن ثم التغلب على جميع الصعاب أقوياء بما يكفي للعيش من دون أوهام ليرتبط أحدنا بالآخر كالارتباط بالأرض، روابط عقل وقلب وجسد، وأعلم أنه ما من شيء يفرق كائنين نبيلين بإمكانهما أن يتكاشفا وأن يستسلما إلى حب مضطرم».
وتتابع الصحيفة: العاشقان متيمان بجنون منجذبان بطريقة لا تقاوم ولم يتوقفا عن الإقرار بذلك والكتابة رغم انشغال كامو بحياته العائلية ومرضه كأن يكتب لها: «صبري ينفد وأتخيل اللحظة التي نغلق باب غرفتك مرة أخرى» فتجيبه: «أشعر بالغليان كل شيء بداخلي يحترق الجسد الروح القلب هل فهمت؟»، ويجيب «نعم فهمت».
تقول ماريا كازاري في مذكراتها التي صدرت عام 1980: إن ألبير كامو كان بالنسبة لها وعلى مدى ستة عشر عاماً الأب والأخ والصديق والحبيب وأحياناً الولد.
وكانت الرسالة الأخيرة من كامو إلى حبه الكبير مؤرخة في 30 كانون الأول 1959 أي قبل موته بأيام رسالة مذيلة بإحساس خاص يخبرها بأنه سيعود من منزله في منطقة لوماران الإثنين 4 كانون الثاني يقول: «إلى اللقاء قريباً يا حلوتي أنا سعيد جداً لأني سأعود لرؤيتك وأضمك إلى صدري لك قبلاتي إلى يوم الثلاثاء حيث سنبدأ من جديد».
لكن كامو لم يصل أبدأ إلى باريس إذ توفي بحادث سير في 4 كانون الثاني 1960، بعدها بقليل عبرت ماريا عن إخلاصها له بالقول: «عندما نشعر بقوة الحب لمرة واحدة فهذا يعني أن نبقى عليه أبداً، أنا لست وحيدة فهو معي للأبد».
تقول ابنته كاترين التي اختارت نشر رسائل الحب المجنون لوالدها إلى امرأة أخرى غير أمها: «كانت أمي على علم بتلك العلاقة لكنها لم تتحدث عنها إلا باحترام ومودة، لقد التقيت ماريا بعد موت أمي في الثمانينيات وكان لدي رغبة شديدة في التعرف إليها، واستمر اللقاء خمس ساعات ونصف الساعة في مدينة نيس حصلت بعدها على الرسائل التي تعتبر أيضاً شاهداً على مسرح مرحلة الخمسينيات وصورة عن حالة فرنسا في تلك المرحلة ».
ومن أقوال كامو: «لو كان علي تأليف كتاب عن الأخلاق لجعلته من 100 صفحة 99 منها بيضاء وفي الأخيرة كتبت لا أعرف سوى واجب واحد هو الحب، علينا أن نلتقي بالحب قبل الأخلاق وإلا تمزق الأخير».
العدد 1102 – 5-7-2022