حدائق الروح وصخب الأجساد

الملحق الثقافي- مها حسن :

يطل علينا الأديب محمد الحفري في مجموعة قصصية بعنوان (حدائق الروح) ويفاجئنا أن من وراء ذاك الخجل وتلك الابتسامة الدائمة قلباً كليماً وحزناً دفيناً مصوراً مفرزات الحرب وتداعياتها التي أثرت على نفسية الإنسان وأسبلت ستاراً سوداوياً أنهكت سنوات عمره وبدد أحلامه ووشت بحلكتها ألوان طموحه، لكنها على الرغم من كل ذلك لم تغير عادات بالية نشأ عليها المجتمع.
نجده يسلط الضوء في قصته «عربلم» على عادات بعض القرى في طريقتها لحل المشكلات التي تعترض طريقها ولجوئه إلى كبيرهم واستشارته حتى لو لم يكن أهلاً لذلك حتى لو أنه متعب أو أن الدهر أكل عليه وشرب: «أخيراً اتفقوا على أن يكون الاجتماع في الخيمة الكبيرة الواقعة في ربعة أبي هاجم، صحيح بأنه بلغ من العمر عتياً ولم يبق سوى هيكله الخارجي بعد أن سرى الرجفان في يديه ورأسه ولسانه، وتهرأ فيه ما عجز الطب عن ترميمه، لكنهم أجمعوا بأن أبا هاجم هو رجل الملمات والشدائد وهو بما له من خبرة أفادته بها السنون التي عاشها قادر على فهم ما يحيط بقبيلة العربلم من ظروف وأخطار»
كان أفراد قبيلة أبي هاجم يهللون للضيوف ويقفون خارج الخيمة حينما اجتمعت الأفخاذ من القبيلة، لتدور المناقشات داخلاً بين صد ورد ولا يعلم بأمرها أحد أو يتدخل أي إنسان من أفراد القبيلة على الرغم من التطور في تلك القبيلة ووجود شاشات التلفزة والمكيفات ألا أنهم تجمهروا حول الخيمة يخمنون ما بكون وما الحلول والأمور محصورة فقط بالأفخاذ.
دائما تأتي الحلول مخيبة للٱمال، فالفخذ جريح، ولكنه مذنب في نظرهم وكيف لا وتلك الرؤوس مفرغة من العقول ولا قدرة لهم إلا على الضعيف.
«الذين لاذوا بالصمت طوال الجلسة المقتضبة تكلموا أخيراً وقالوا إن الحل الأنسب أن نتبرأ منهم، فهم أصحاب قلوب بيضاء، فلا قرابة بيننا وبينهم ولا ضاد ولا رابط، ودللوا على كلامهم بأن هؤلاء الناس لم يحتفلوا منذ سنوات بسباقات الخيل، ولم يحتفلوا ولو بمهرجان واحد للجمال…».
وبالتالي هناك سخرية من تلك العقول المجوفة المثقلة بالأعراف المهترئة التي لم تغيرها نمطية الحياة المترفة، فجسد طريقة حل الأزمات التي تواجهها القبيلة بطريقة بدائية ناتجة عن تسييس للعقل البشري راسماً طريقاً يربط الأجداد بالأحفاد، صدر الحكم ووجب التنفيذ.
«في أمكنة أخرى كان ثمة حرائق تشتعل، تأكل الأخضر واليابس وأبنية تهدم وأخوة يقتتلون، ويقتلون بأمر مباشر أو عير مباشر من بعض أولئك الذين اجتمعوا قبل قليل.»
أما قصة العاري الأنيق ذاك الذي تبلدت مشاعره وانعكست على طريقة تفكيره ومعيشته.. ثيابه كلها من أصدقائه، فقد أعطاه صديقه طقماً فضفاضاً لا يناسبه وحاول جاهداً أن يجعله مناسباً لمقاسه، ولكنه لم يجد قميصاً من القمصان التي أعطاه إياها صديقه باسم قبل أن يسافر إلى ألمانيا يناسب ذاك الطقم، وكانت قمصانه أيضاً ليست على مقاسه فقد كان سميناً. أما حذاؤه فقد كان له حكاية أخرى فقد أهداه إياه صديقه هيثم حينما رأى أن حذاءه بال ولم يتبق منه إلا هيكله الخارجي.
التقى ماجدة في الطريق. تلك المشاكسة التي طالما اشتكى عليها لإدارة المدرسة، لكنه لم يعلم يوماً أنها تحبه إلا حينما ترك المدرسة بعد الحرب وبعد أن أخبره زملاؤه وجميع الكادر التدريسي
«ساد بيننا صمت يعرفه الذين لا تستطيع الكلمات أن تعبر عما يجول في دواخلهم، فتبقى النيران في أفئدتهم، وليس بعد ذلك سوى الصمت الجبان.. رفعت سبابتها وأعادتها من جديد وقالت: ملابسك أنيقة»
وعندما غادرته ماجدة لم يستطع البوح حتى بكلمة الوداع فقد انتهكته الحرب وعرته من الخارج والداخل وبلدت مشاعره.
عميقاً يغوص أديبنا في بحر هذا المجتمع، يصطاد نموذجاً آخر من نماذج المجتمع الوضيعة في قصته «سلامات» حيث يصور إنساناً بسيطاً أبلهاً لا يستطيع النطق إلا بكلمة واحدة هي من استطاع عقله البسيط أن يحفظها وهي كلمة «سلامات» عبد الله أو الملقب سلامات وهو الاسم الذي عرف به من كل أهل الحي وكانوا ينادونه به وكان ودوداً محباً يلوح للغادي والرائح بيده قائلاً سلامات مع تلك الابتسامة اللطيفة، يساعد الجميع، يحمل معهم أكياسهم وأغراضهم إلى منازلهم عن طيب خاطر وبلا أجر، وكان يحفظ الأمانات للجميع، ويسلمها لأصحابها، ويحفظ وجوهم جميعاً وكان لا يستثني من خدماته إلا مريومة الشريرة التي شدته مرة من شعره، وصفعته كفا من دون سبب، وهو يحاول مساعدتها على حمل أحد أطفالها الصغار، ومع مرور الأيام صار لديه انطباع بأنها مخيفة».
ذات يوم اختفى عبد الله أو سلامات وذهبت أمه للمخفر لتقديم بلاغ بعد أن أعياها البحث عنه ولم تجده، وقد استغربت أنهم لا يعرفون اسم ولدها، ولم يكونوا يعرفون أن سيارة أخذته عندما طلب بلطف منه سائقها والفتاتان اللتان تجلسان بها أن يركب معهما، وبعد أن قاموا بإلباسه ثياباً جميلة وإضافة بعض المساحيق على وجهه حيث بدا بأبهى حلة وأخذاه معهما إلى السوق ودخلا محل صياغة، جلس سلامات على الكرسي وأخذ يراقب الفتاتين وهما تختاران أثمن أنواع المجوهرات، وابتسامته تعلو وجهه، وعرفت عليه إحدى الفتيات بأنه أخوهما الأكبر وسيتولى الدفع وهما سوف تذهبان للتسوق حتى ينتهي الصائغ من الفاتورة ويسلمها لأخيهما (سلامات)لدفع الحساب.. وتتأخر الفتاتان ويدفع الصائغ بالفاتورة لسلامات، وحين يطلب منه صاحب المحل أن يدقق الفاتورة فيجيب بسلامات فيخبره بأن شقيقتيه تأخرتا فيجيب سلامات فأدرك البائع أنه وقع ضحية فخ كبير..وبدأ ينهال على سلامات بالضرب الذي أخذ يبكي ويقول سلامات وانهال عليه كثيرون من حوله بالضرب وقيدوه، فأخذ يبكي ويئن من الوجع وينطق سلامات كي يثبت لهم أنه ليس لصاً وأنه وقع ضحية عصابة استغلت طيبته وعجزه لسرقة المجوهرات..
ويتناول الأديب أيضاً مفرزاً جديداً من مفرزات الحرب، حيث واقع أغلب الأسر التي تهجرت من بيونها وتشتت شملها.
العوضي كما يلقبه أصدقاؤه توزع أفراد أسرته على أقربائهم وبقي هو في دائرته الحكومية (النقابة) بعد أن تكرموا عليه ومنحوه إذناً بالنوم فيها. وقد منحوه كنبة قديمة رفض الجميع أن ينقلها إلى مكتبه لكن لا بأس. كان يقضي نهاره في العمل ومن ثم يتجه إلى السوق والمكتبات يجتمع فيها مع أصدقائه. كانوا في بعض الأحيان يقدمون له بعض الموز وغالباً ما يشيعون عنه بأنه محب للطعام وكان لا يأبه لاتهامهم ولا يكلف نفسه عناء الرد عليهم، ويقنع نفسه أن الطعام ليس مهماً، بل الأهم هو تأمين المأوى وتدبير الرأس كما يقولون وما دون ذلك تفصيلات لا وقت لها الآن.
كانت كنبته تعمل كسرير يلقي عليه عبء همومه وثقل جسده، وهي خزانة أيضاً يضع فيها الأغطية والأوراق والكتب وحبيبة يشتاق إليها، فهي تمنحه الأمان والراحة والدفء، شعر أن نقابته فقيرة وقد قدرت تعبه معها وكافأته على ذلك حين سمحت له أن يستخدمها ولو لم تكن فقيرة لقدمت له أحسن ما عندها، ولقاء ذلك المعروف وجد نفسه ينحني بتواضع لصديقه القديم في النقابة غيث الذي بدا أكثر بدانة بعد أن ارتفع شأنه وتسلم النقابة ولا يعرف كيف يرد له الجميل، ولن يطلب منه أي طلب لأنه يؤمن بالفصل بين الصداقة والعمل، لكن صديقه غيث كانت نظرته على النقيض، فقد أراد أن يقضي على أمان العوضي وسلامه الداخلي وتصالحه مع ذاته، ويجرده من أفضل متعة حصل عليها منذ بداية الحرب، فألقى بجسده البدين على تلك الكنبة المتهالكة (مأوى عوض) فتناثرت قطعا وتناثرت أحلامه مع قطعها ومع ضحكات غيث الذي اتجه خارجاً، ليغوص العوضي في قاع المحيط يلملم خيبته ويبحث في عالمه عن كنبة مستعملة يقضي عليها ما تبقى من قطع عمره وأسمال آماله..
تصور قصة «قلب أبي المفتوح» الرجل الشرقي بكل عنفوانه وشبابه وجبروته وتصرفاته الشرقية الرجولية التي يفرضها على زوجه الذي تزوجها من دون حب وقد حرم من محبوبته سابقاً، وأولاده الذين يراهم صغاراً وأنهم تحت سلطته حيث يمارس الضرب والسب والشتم لأتفه أخطاء زوجته، ويهددها بأنه سيتزوج بمن يحب وإن لم يجدها فسوف يتزوج فتاة بيضاء وطويلة رشيقة ليست كزوجته التي يتساوى طولها وعرضها كما يقول، وسوف يشتري لها دراجة نارية (بطح) يجلسها خلفه ويتنزه وإياها كالمراهقين. يصعد دراجته الهوائية وتمتد نظراته بعيداً لتتجاوز كل الصعاب وتصل إلى أمكنة لا يصل إليها أحد.
تشاء الأقدار أن تجرى له عملية قلب مفتوح حيث أكد الطبيب ضرورة إجرائها حتى لا تزداد حالته سوءاً
«أكد بأنه حين يعود بعدها سيبصق في وجوهنا جميعاً، وسيبدأ بأمنا التي لم تعرف قيمته ولم تقدره حق قدره، وعندما عاد كر علينا كعادته فحملناه بمساعدة شقيقنا الثالث سليمان، ووضعناه على السرير، ثم وقفنا أمامه لأول مرة كأوتاد زرعت بشكل مفاجئ في أرض الغرفة» هنا أحس الأب بضعفه وبأن أولاده أصبحوا شباناً فبدا كأنه يراهم لأول مرة، فابتسم ونادى على زوجه وأقسم لها بأنه لن يمد يده عليها مرة أخرى، وسيفك خيوط قلبه ويضعهم جميعاً فيه ومن ثم يخيط جرحه. أخذته لوثة الحياة ومرهقاته الكثيرة وحجبت الرؤية عن عينيه وكانت العملية ليست لفتح قلبه وحسب بل أزالت غشاوة عينيه وأعادت ألوان البهجة إلى بصره.
ليس غريباً على كاتب مثل محمد الحفري الذي عاش الحرب وعاصر كل أطيافها وخبر المعاناة أن يكتب بهذه الرؤية العميقة والنظرة الثاقبة مصوراً بعضاً من ترسبات الحرب ومعاناة المواطن وتصرفاته اليومية فكانت قصصه تحمل في طياتها هموماً لأبطال عاشوا المعاناة والألم وصنعوا أملاً من وسط المأساة، وحاولوا التعايش مع المأساوية بطريقة بسيطة مثقلة بالأعباء. المجموعة القصصية صادرة عن الهيئة الهامة للكتاب تقع في ١١١ صفحة من القطع الوسط المتوسط.
العدد 1110 – 6- 9-2022

آخر الأخبار
"تربية حلب" ترحب بقرار دمج معلمي الشمال في ملاكها شراكة في قيم المواطنة والسلام.. لقاء يجمع وزير الطوارئ وبطريرك السريان الأرثوذكس الاستثمار في البيانات أحد أعمدة التنمية معاون وزير الداخلية يبحث تأمين مقارّ جديدة للشؤون المدنية بدرعا انطلاق "مؤتمر  صناعة الإسمنت والمجبول البيتوني في سوريا 2025" محافظ دمشق: لا صلاحيات للمحافظة بإلغاء المرسوم 66 الملتقى الاقتصادي السوري - النمساوي - الألماني 2025.. يفتح باب الفرص الاستثمارية  تعزيز الصحة النفسية ضرورة  حياتية بعد الأزمات   "ملتقى تحليل البيانات".. لغة المستقبل تصنع القرار يوم توعوي للكشف المبكر عن سرطان الثدي في مستشفى حلب الجامعي أدوية ومستهلكات طبية لمستشفى الميادين الوطني  معمل إسمنت بسعة مليون طن يوفر 550 فرصة عمل  "التربية والتعليم" تطلق عملية دمج معلمي الشمال بملاك "تربية حلب"   مونديال الناشئات.. انتصارات عريضة لإسبانيا وكندا واليابان العويس: تنظيم العمل الهندسي أساس نجاح الاستثمار في مرحلة الإعمار  التحليل المالي في المصارف الإسلامية بين الأرقام والمقاصد تعاون سوري – سعودي لتطوير السكك الحديدية وتعزيز النقل المشترك شراكات استراتيجية تدعم التخطيط الحضري في دمشق تسهيل الاستثمار في سوريا بين التحديات الحكومية والمنصات الرقمية مواجهات أميركا مع الصين وروسيا إلى أين؟