الثورة – فؤاد مسعد:
استطاعت العديد من الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما عبر مراحل مختلفة من تاريخها أن تشق طريقها مرسخة حضوراً لافتاً في المهرجانات والمحافل العربية وحتى الدولية عبر تظاهرات ومهرجانات وأسابيع ثقافية وسينمائية، ونالت جوائز هامة وكرّمت في أكثر من مكان في العالم، ولعل واحدة من أبرز السمات التي تمتعت بها بشكل عام عمقها عبر ما تناولته من قضايا ورؤى فكرية وجمالية وإنسانية مكرسة قيماً ومفاهيم هامة، ولكن هذا الحضور لم يأت من فراغ وإنما عكس ما حملته تلك الأفلام من زخم سعت إلى بلورته من خلال ما عبرت عنه من هواجس وقضايا وفي مقدمتها هاجس الهوية والانتماء الذي شكّل عاملاً مشتركاً بين الكثير من الأفلام السورية التي عملت على تكريسه بشكل مباشر حيناً وغير مباشر في أحيانٍ أخرى، وأغلب المخرجين السوريين ضمّنوا أفلامهم أفكاراً ورؤى ترقى إلى مستوى ترسيخ موضع الهوية وعبر مختلف الأشكال فتارة هي العمود الفقري الرئيسي فيها وتارة أخرى هي أحد أركانه الحاضرة بقوة، هذه الأركان التي تتشعب وتتنوع إن كان عبر البيئة أو التجذر بالأرض أو ذاكرة الوطن وما تطرحه من مفاهيم تبرز حالة الانتماء أو الذاكرة الجمعية وأحداث ارتبطت بالمكان والزمان، كما يندرج ضمن هذا الإطار أيضاً الأهازيج والأغنيات والعادات والتقاليد والطقوس اليومية المرتبطة بمنطقة معينة بكل ما تحمله من دلالات وأبعادٍ ومعانٍ يتماهى فيها الخاص مع العام والتي شكلت في مجموعها هوية مجتمع متكامل.
ومن تلك الأفلام نقتطف غيضاً من فيض، ومنها على سبيل المثال فيلم (علاقات عامة) إخراج سمير ذكرى (2005) الذي تنطلق مشاهده الأولى من عوالم تُظهر عمق الحضارة والأصالة في سورية مؤكدة عراقة هذا البلد من خلال الآثار والأوابد الشامخة فيه، حتى أن هناك مشاهد في الفيلم تجول فيها الكاميرا وكأنها تحاول قراءة تاريخ لم ولن يموت أبداً، هي الهوية الراسخة للمكان بكل ما تعبق به من معانٍ. ويرصد فيلم (أيام الضجر) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد (2008) مرحلة الوحدة بين سورية ومصر والتحديات التي كانت تحدق بالمنطقة وعلى هذه الخلفية من الأحداث الكبرى نتابع حياة وأوجاع العائلة الصغرى وخصوصية البيئة إن كان على الجبهة أو في القرية. وضمن إطار خصوصية البيئة الدمشقية نذكر فيلمين الأول (حسيبة) إخراج ريمون بطرس (2007) الذي تدور أحداثه خلال عشرينيات وخمسينيات القرن الماضي ويظهر فيه البيت الدمشقي بمفهوم أبعد من الحجارة والعمارة ليشمل الروح والناس الذين يعيشون فيه، أما الفيلم الثاني فهو (حراس الصمت) إخراج سمير ذكرى (2010) فنرى دمشق فترة الخمسينيات والحيــاة اليومية في حارتها حيث الحب والعنف والمشاعر المضطربة والأحلام التي تتهاوى.
وأحد أنصع الأمثلة يقدمها فيلم (الهوية) إخراج غسان شميط (2007) الذي حمل هماً وطنياً وقومياً طارحاً أفكاراً تصب في إطار المقاومة والنضال والدفاع عن الأرض ملقياً الضوء على معاناة أهلنا في الجولان المحتل ورفضهم الهوية الإسرائيلية كما رصد تفاصيل البيئة وطقوسها وآلية حياة أهل المنطقة، فجاء أقرب ليكون ذاكرة روحيّة منسوجة من عمق الأحداث مستقرئاً ألم مرحلة هامة من تاريخنا، وفي فيلم (بانتظار الخريف) إخراج جود سعيد (2012) نتابع حكاية عن الحرب التي شنت على سورية حيث يظهر إصرار الناس على الاستمرار في فعل الحياة والعمل والإنتاج رغم المصاعب، في حين نتلمس عبر فيلم (دمشق حلب) إخراج باسل الخطيب (2018) انتصار القيم الإنسانية النبيلة والجانب الخيّر في العلاقات الاجتماعية، أما فيلم (دم النخل) إخراج نجدة أنزور (2019) فتتمازج فيه بطولات الجيش العربي السوري مع أهمية الآثار وحمايتها من محاولات السرقة لتشويه حضارتنا.