الثورة – هفاف ميهوب:
لم يشعر الأديب والشاعر والمفكر اللبناني “دريد عوده” في أيّ يوم من الأيام، بأنه غريب في أيّ بقعة من بقاع العالم، وهو ما أكّده بإنسانيّته وعمق كلماته: “في كلّ ترابٍ من الترابِ الأكبر، تراب أمنّا الأرض، تنمو جذوري بسرعة، تتمدّد، مفتّشةً عن ماء الجوف، الماء المقدسة، الماء الأكثر قداسة: عرق جبين أبناء الأرض، قطرات تحمل قصص كفاحهم، طيّها التاريخ، كلّ التاريخ. حبيبات كالماس، كحبّات المطر، تحمل أشعة الشّمس وضوء القمر ولمعان النجوم”..
لم يؤكّد “عوده” عدم غربته هذه، بإنسانيّته وكلماته فقط، بل وبأعمالٍ “روائية، ملحميّة، شعريّة” أطلقت إشعاعاتها “من أجل عالمٍ مختلف، وعصر إشراق جديد في زمن البربريّتين – الأصولية الهمجية والمادية المتوحشة”، وهو مشروعه الحضاري والفكري الذي أراد منه جعل الحضارة تتنفّس لا تختنق، والحياة تستعيد أمجادها وبريقها وروحها.. الأهم، جعل أبناء الحياة يولدون من أرضٍ جديدة، يكونون ملّحها لا رمادها.
نعم، هذا ما أراده لـ “أبناء الحياة”.. “أبناء الرياحين” في أرضٍ، هي الشرف الذي يزودون عنه، وهم رجال مقاومتها، ومفردات النّور تسطعُ بحقيقتها.. سلاحهم كرامةٌ تتحدّى وتواجه عدوّها، ورصاصهم حقّ يمزّق، كلّ من يسعى لظلمها وظلامها، واغتصاب ولو قطعة من ربوعها.
هي أيضاً، أرضٌ “عشتار” الأم، الوطن، الحب.. “الكلمة التي هي الجغرافية المقدسة، ولا حدود لها”.
هذا ما أراده “الرائي المستنير” أو “الشافي بالنّور” ولم يردهُ الضالون و “المضللون” والإرهابيون، الذين كشف عن عمق جهلهم وعماءِ معتقدهم، وأطاح بأشباههم من القتلة الطغاة.. انتصر بضوء كلماته على الحمقى والأوغاد، مثلما تنتصر “رياح الشّمس” على “ممالك الرماد”..
انتصر بكلماته وإبداعاته في شتى صنوف الفكر والأدب، مثلما بأسراره الناطقة، بشعريته الصوفيّة وفلسفته، ما قبل وبعد “سمفونية اللهب”:
“فلسفتي تتفنّن، تقول كلماتها بالشّعر، بالموسيقا، بالرسم، بالنحت..
هي أجراسٌ من زبد، سيمفونيات لهب، ترانيم ملائكة.. تراتيلٌ ترقص، تغّني، وترسم لوحاتها البديعة على قماشة القلب والروح، وليس على صفيحِ العقل، وصحائف الشرائع الصخرية.. فلسفة ألوانٍ مائية لاتنحت تماثيل الفكر على الصخر ومنه، بل تنحت بواعث نفسي وتنقشها بخيوطِ الشّمس على صفحة الماء فتتموّج بتموّجاتها، وتتراقص على رقصها، وتسافر معها في رحلة العود الأبدي، من الينبوع وإليه”…