تحاصرني العتمة، وتضيق نفسي وأنا في موقع المريض الذي يعدّ أياماً ليشفى بينما أنظر إلى ضوء بطارية أوشك على الانطفاء، وبصيص شمعة ذابلة تذوي ببطء.. وتقع عيني على المكتبة الضخمة في بيتنا الدمشقي أمي وأنا، وهي على أي حال مكتبة (قمر) أمي عاشقة الكتب، والحرف، والقلم.. مكتبة تضم ألوف الكتب من أمهاتها من تراث عربي، ومن كلاسيكيات أدب غربي.. وبتراخي يدٍ متعبة أصل مصادفة إلى كتاب صغير من إصدارات الهيئة العامة السورية للكتاب ضمن سلسلة الكتاب الشهري للناشئة هو (مختارات من الحكايات الشعبية) للأخوين (غريم)، ترجمة د. نبيل حفار، فتقفز إلى ذهني على الفور قصص هؤلاء الأخوين التي طالما افتتنت بها في طفولتي، ومازلت، شأني آنذاك شأن كل أطفال العالم الذين تعلقوا بقصص (الأمير الضفدع)، و(بياض الثلج والاقزام السبعة)، و(هانس وغريتل)، وغيرها كثير من قصص الخيال التي أبهجت الكبار أيضاً مثلما فعلت مع الصغار.
وتتزامن قراءة هذا الكتاب الضئيل حجماً، الكبير قيمةً مع سؤال للصحافة وصل إليّ عن التحديات التي تواجه الثقافة العربية الآن في زمنٍ ممهورٍ بالعولمة، أو ربما بما يمهد لذوبان الثقافات عموماً، وانصهارها في بوتقة واحدة على اختلافها، واختلاف ألسنة الأجناس، والأعراق البشرية.. لأجد أن الإخوة (غريم) قد استبقوا الأحداث قبل أكثر من قرنين من الزمن عندما كرّسوا موهبتهم لإحياء التراث فاستقوا منه، واستلهموا قصصاً مازالت تنبض حيةً في ثقافات الشعوب بعد أن تُرجمت أعمالهم إلى أغلب اللغات، ومنها بالطبع العربية.
لم يكن الهدف من تلك القصص، التي أصبحت ليس في حينها فقط، رمزاً لأدب الطفولة الذي يمتع، ويفيد بآنٍ معاً، أقول لم يكن الهدف أن يقف المعنى عند مفردات القصة بل كان في إحياء الفكر الذي أفرز، واللغة التي صاغت تلك الأساطير الألمانية الموغلة في القِدم، والحكايات الشعبية التي تنبع من تجارب الأمم، والبيئة التي يعيشون فيها، ولو ارتدت الرداء ذاته ولكن بنسيج أكثر جِدةً لكي لا يهترأ نسيجها الأول، فيتلاشى.
لقد قدّم الإخوة (غريم) لتراث أمتهم الأدبي، واللغوي خدمة عظيمة لم تحفظه فقط من الضياع بل أطلعت على خصوصيته كل أمم الأرض.. فهل هناك ما هو أفضل من هذا؟..
هذا الكتاب بمحتواه الفني، والأدبي، جعلني أكثر إصراراً على العودة إلى كنوز تراثنا المخبوء كالجواهر لإعادة صياغته برؤى جديدة، ومعاصرة بحيث يكون المزج بين التراث والمعاصرة دقيقاً بما يكفي لعدم إفساد الأصل لحساب التجديد.
وينطفئ ضور مصباح البطارية، وتموت شمعتي الوحيدة في ليلة لم تعد معتمةً مع تلك الحروف التي قرأتها.. وألجأ إلى مذياع صغير إلى جانبي فيبث لي ما أهوى من موسيقى، وأغنيات، لأجد نفسي وقد تحررت من ضيقٍ كان يأسر نفسي، ومن عتمةٍ أقعدتني في مكاني خوفاً من أن أرتطم بأثاث المنزل فأحظى بإصابة فوق إصابة، وأزيد الطين بلة.. إلا أن بستان الفن المسحور الذي خطفني إليه عبر كلمة، ولحنٍ جعل دنياي مضيئة يملؤها الفرح.. وأغفو راضية، مبتسمة، مطمئنة، وأنا أردد لنفسي: يا ترى هل هناك من عوالم هي أجمل من عوالم الفن والكلمة؟.. ما أظن.