مرت الذكرى التاسعة والأربعون لحرب تشرين التحريرية هذا العام وسط حالة اضطراب غير مسبوقة تعيشها الأمة العربية كلها، ولا ينجو منها موضع صغير، وإن كانت تتباين ظروف الاضطراب بين منطقة وأخرى لكن انعكاساتها تصيب جسد الأمة بمجملها.
كانت حرب تشرين نقطة انعطاف وحدثاً فاصلاً بين سلسلة الهزائم والخيبات وبين مرحلة انتصارات كبيرة، جهد الغرب الأوروبي لسرقة وهجها وبهائها، فبدأت خيوط المؤامرة الكبرى تحاك في الأقبية والغرف المظلمة لتجهيز وإعداد البرامج التنفيذية لمنع استمرار حالة الانتصار، ومنع تكرار ظروف ذي قار واليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت وذات الصواري وغيرها على اختلاف ظروفها وأماكنها وأبعادها الزمانية والمكانية.
لقد كانت ظروف تلك المعارك مخالفة لكثير من المعطيات المنطقية والعلمية من حيث العدد والعتاد وميادين العمليات، لكن نتائجها كانت مخالفة لتوقعات المخططين والمنفذين على السواء، فما السبب الحقيقي الكامن خلف تلك الانتصارات؟
تركزت الأبحاث الأميركية والأوروبية والصهيونية على البحث في العامل الأساس لسبب النصر ليجدوه كامناً في جوهر الفرد المستعد للتضحية والفداء واقتحام المخاطر إيماناً بحقه وثقة بقدرته وفق ما يحمل من قيم ومفاهيم شكلت ثقافة جامعة ذات عرا لا تنفصم ولا تضعف أبداً، فكان العدد القليل يندفع مهاجماً الجموع الكبيرة من الأعداء يدخل الخوف إلى نفوسهم ويهزمهم نفسياً قبل أن يقضي عليهم ويحقق الانتصارات الحاسمة.
نعم فقد كانت ثقافة الفداء والتضحية تحكم الفرد العربي المنتمي إلى أمة تتمسك بحقوقها المشروعة وترفض الخضوع لقوى البغي والعدوان مهما عتت في جبروتها، لذلك كان التصميم والإرادة عوامل القوة الفاصلة في حسم نتائج تلك المعارك، وهو ما ينسحب كلياً على حرب تشرين التحريرية وظروفها كاملة، إذ بدات التحضيرات عبر عملية تعبئة وطنية شاملة لقطاعات الوطن كافة، فظهر التوافق والانسجام بصورة مثالية في ميادين القتال وفي المدن والقرى والأحياء وفي مواقع العمل والانتاج كافة، وكان التعاون سمة عامة ما بين جميع قطاعات الخدمة والإنتاج والتعليم والصحة وغيرها، الأمر الذي زاد من قوة الجندي السوري الذي دخل المعركة مطمئناً على مستقبله ومستقبل أسرته ووطنه مقدماً نفسه قرباناً لوطن يحرص على سيادته وقوته واستقلاله.
واليوم إذ يستذكر السوريون تلك الأيام فهم يستعيدون حالة تشرين النصر عبر قصص البطولات والتضحيات في الجولان ومرصد جبل الشيخ والقطاع الجنوبي والأوسط والشمالي ، ويستذكرون بطولات رجال دفاعنا الجوي وهم يسقطون الطائرات الصهيونية كالفراشات على امتداد جبهات القتال، ويروون حكايات أبطال الجمهورية من الطيارين الأبطال الذين أسقطوا طائرات الفانتوم والميراج ويلاحقونها فؤق الأراضي الفلسطينية المحتلة ويقصفون ميناء حيفا ويجبرون العدو على التراجع.
إن ذلك الجيش الذي حقق انتصارات تشرين ما زال ثابتاً ومستمراً في انتمائه الوطني القوي وعقيدته الثابتة في الاستعداد للقيام بالدور ذاته في حماية البلد من بقايا الإرهاب ودحر المحتلين واستعادة سيادة الوطن كاملة دون أدنى مساس بها، وستحمل الأيام القليلة القادمة براهين جديدة على صدق هذه الرؤية وأحقية تكرارها.