الثورة – هفاف ميهوب:
اللغة هي من عَرِف الفنّ وعرّفه، ومن ابتكر له الآفاق، حتى وإن عاش الفنان في العزلة.. لغة مبدعين استبصروه فعاشوه.. منهم من قبض عليه “بحثاً عن الزمن الضائع” كما “مارسيل بروست”.. الأديب الفرنسي الذي مثلما اضطرّه مرض الربو أن يكون أسير غرفته، اضطرّه للبحث عن الزمن خلال هذا الأسر الذي طال، إلى أن جعل منه بطل روايةٍ حلّلتها لغته:
“الفنّ الحقيقي في إيجاد تلك الحقيقة التي نعيش بمنأى عنها، وفي العثور عليها وإدراكها.. هذه الحقيقة ليست سوى نهر حياتنا المُكتشفة والمضاءة، والتي تسري كلّ لحظة لدى الناس جميعاً، كما تسري في أعطاف الفنان.. الناس لا يرونها لأنهم لا يسعون لاكتشافها، بينما الفنان يسعى، وبلغته يعمل على تحليلها”…
لا يختلف الأمر هنا، لدى أعظم كاتب إنساني.. الأديب الروسي “تولستوي”.. ذلك أنه وبالرغم من مجده وأملاكه، وأفقه الشاسع وثروته، لم يتوقف عن التفكير والانشغال بالإنسان الفقير ومعاناته، وبالفلاح الذي استمدّ من بساطته وجهده وعرقه، ما أثرى أعماله وفلسفته:
“على الفنان أن يقول كلّ ما يمنح الخير للناس، كلّ ما ينقذهم.. إن الفنّ ينساب إلى حياتنا، فيشكّل مع الكلمة آلة التقدم البشري.. الفنّ يهزّ القلوب، والكلمة تهزّ الأفكار، فإن شاب أحدهما الشرّ، يصبح المجتمع مريضاً.
كثر من مبدعي العالم، وجدوا الفنّ خلاصاً لحياة ابتكرتها رؤاهم ولغتهم… كثر ولن نذكرهم كلّهم لطالما، يكفي من ذكرناهم ونضيف إليهم، ذاك الشاعر الذي لقّب بـ “صائغ الحرف”.. الفرنسي “مالارميه” الذي اعتبر كلمات القصيدة شرايين تنفجر ويتدفق منها دم حار يصبّ في قلوبٍ طيبة، معطاءة، خافقة.. اعتبرها لغة متأنّية ومنتقاة ومصقولة ومتّزنة، في سعيها لرصفِ القصيدة بما يجعل منها فناً كانت مهمته ومهمّة لغته:
“مهمة الفنّ أن يسعى إلى الحقيقة الكامنة في ضمير الإنسان.. أن يتلقّفها من الأعماق.. تمرّ أمامه صور الأشياء فتترك انطباعه.. وظيفة اللغة لدى الفنان، مطاوعة هذه الصور في حركتها، والسماح له بالولوج إلى آفاق الحلم الرحيبة”….