الملحق الثقافي- عبد الحميد غانم:
منذ فجر التاريخ، يوم بدأ الإنسان يدوّن لمن بعده مآثره، كانت اللّغة أداة أساسية من أدوات السياسة، لم تكن أهميتها تقلّ عن أهمية المال وأهمية الاحتماء بالعصبية، غير أن وزن اللّغة في استواء أمر السياسة قد تطور بتطور آليات الإنسان في تواصله مع الإنسان، ثمّ تضخم عندما أصحبت المعلومة ملكاً مشاعاً بين الحكام والمحكومين.
الوعي بأهمية اللّغة في السياسة، يطرح علينا سؤالاً أن نبحث في السياسة من خلال اللّغة، أم أن نبحث في اللّغة من خلال السياسة؟
هل نحن أمام لغة السياسة أم سياسة اللّغة، أيهما أوقع في النفس وأيهما أجدر بإجلاء الحقائق في أن نعي لغة السياسة أن نفهم سياسة اللّغة.
في مغامرة الوعي الثقافي تتبدل أمامنا أشياء كثيرة، وتتغير مقاييسنا شيئاً فشيئاً في إرسال الأحكام الجاهزة على السياسة وعلى اللّغة.
هل علينا أن نعيد اكتشاف الأدوات التي تصنع سلطة السياسة، أم نعيد اكتشاف اللّغة كي نقرّ لها بالسلطة التي نحتاج إليها في الوصول إلى مدارات الوعي.
البحث في علاقة السياسة باللّغة من خلال الوعي الثقافي يتطلب أن نفصل العلاقة القائمة بين غايات الإنسان من الكلام وفهم حيثيّات الفعل السياسي قبل الحكم عليه.
ليس مألوفاً أن نبحث في الآليات المحركة للغة في مجال السياسة، لأننا لم نتشبع استراتيجيات الخطاب عامة وقوانين استراتيجيّات الخطاب السياسي.
الحدث السياسي يدفعنا إلى الوقوف لحظة على اللّغة، وقد نستشهد ونحن نبحث في اللّغة بمقولة جاءت على لسان أحد السياسيين، ولكننا لم نعهد اتخاذ التقاطع بين الظاهرتين مجالاً للبحث والاستكشاف.
سلطة اللّغة تقول إن اللّغة في الوجود أداة مطلقة، وهي في السياسة قيمة مقيدة، ولكنها في الإعلام وظيفة متحكمة.
من الخطأ عزل سلطة السياسة عن سلطة اللّغة، لإن البحث في السياسة بتجرد منهجي ومن منطلق وعي ثقافي جديد لا سيما بطريق فنون تحليل الأقوال يقتضي مصادرة مبدئية هي الحياد الفكري الضامن للتشخيص العلمي، ولكن الموضوعية في البحث اللّغوي والدلالي لا تلغي وقوف الباحث على درجات السلم القيمي، بل كثيراً ما يكون الانتماء الأخلاقي والالتزام بمواثيق الحق الإنساني والانخراط في معايير العدل المطلق هي التي تحفز الباحث على أن يرى في علاقة اللّغة بالسياسة ما لا يراه غيره.
الشائع أن السياسي يهتم باللّغة اهتماماً عارضاً، واللّغوي يتابع القضايا السياسية بوصفه كائناً اجتماعيّاً أكثر مما هو ذو خصوصية معرفية.
لكن الأمر يختلف عند إلقاء الضوء على الجسور الواصلة بين السياسة واللّغة، التي يكتسبها الخطاب السياسي، وأن اللّغة هي صانعة للفعل السياسي ومحققة لحيثيّات إنتاجه، أما أن تتحول اللّغة أحياناً فتمسي جوهر الحدث السياسي في ذاته ولذاته فهذا مما لا يستوعبه الوعي العام إلا إذا انبرى الدارس اللّغوي يبصّره به.
تقف وظيفة اللّغة عند حدود وصف الواقع كما هو فتقدم لنا عنه صورة فوتوغرافية، وفي القول الثاني ترسم اللّغة لوحة نستشف من خلالها صورة الواقع.
تطور العلاقة بين السياسة واللّغة ما كان لها أن تتحقق بالشكل الذي جاءت عليه، وما كان لها أن تمثل إنجازاً مهمّاً في التغيير الجوهري العميق داخل بنية الخطاب، لولا الانفجار الذي حصل في جسور التواصل اللّغوي والسياسي منذ شاعت تقنيات البث الفضائي الكثيف.
إن اللّغة سلطة كثيراً ما تندمج داخل نسيج السياسة حتى لتكاد تحتكر لُباب الفعل والقرار، وكم من منعطف كانت فيه الكلمة هي الصانعة للحدث السياسي، وهي الراسمة لمعالم الموقف بكليته، ولئن كان هذا دأبَ اللّغة مع السياسة منذ القديم فإن تطور الحياة وانفجار منظوماتها قد أعاد ترتيب العلاقة، لتسكنان تحت سقف واحد السياسة واللّغة.
العدد 1125 – 20-12-2022