دمشق.. العودة إلى الوطن بعد أربعة عشر عامًا من المنفى تأملات في العدالة والذاكرة ومستقبل سوريا

فضل عبد الغني – مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان

على مدى أربعة عشر عاماً، عملنا ما بين الخفاء والمنفى، خاطر أعضاء فريقنا بحياتهم يومياً وعملوا تحت القصف والمراقبة، وفي ظل التهديد المستمر بالاعتقال، لا يزال ثلاثة من زملائنا في عداد المختفين قسراً حتى يومنا هذا، وغيابهم يظل تذكيراً مؤلماً بالثمن الذي دفعوه في سبيل الحقيقة في زمن النظام البائد.

لقد قُتل آخرون تحت التعذيب، أو استُهدفوا وأصيبوا في غارات جوية، أو تركوا العمل نتيجة الضغط النفسي المتراكم من مشاهدة فظائع لا توصف.

واليوم، وأنا أقف في مكتبنا بدمشق، أتذكر أولئك الذين استمروا في توثيق الانتهاكات حتى تحت وابل البراميل المتفجرة، والذين هرّبوا الشهادات والصور والفيديوهات عبر الحواجز الأمنية، والذين أنشأوا قواعد بيانات وهم يعيشون كلاجئين تعرضوا لأقسى أنواع العنصرية والتهديدات في أبسط وثائقهم الثبوتية، تضحياتهم هي ما أوصلنا إلى هذه اللحظة الفارقة.

هندسة الحقيقة

خلال هذه الأعوام الأربعة عشر، شيّدنا نظام توثيق منهجي حوّل المعاناة الفردية إلى أدلة قانونية، تضم قواعد بياناتنا معلومات عن قرابة 234,576 حالة وفاة مدنية موثقة، و163,718 حالة اعتقال واختفاء قسري، و45,342 ضحية تعذيب، وأكثر من 16,000 مسؤول متورط في ارتكاب الانتهاكات.

كما وثّقنا 81,954 هجوماً بالبراميل المتفجرة، و222 هجوماً بالسلاح الكيميائي، و919 اعتداءً على منشآت طبية، و1,477 هجوماً على أماكن عبادة، كل رقم من هذه الأرقام هو شهادة على حياة دُمّرت، وأسرة تفرّقت، ومجتمع تمزّق، خلف كل نقطة بيانات هناك اسم، وقصة، ومطلب للعدالة، صمدنا بها في وجه محاولات المحو المتكررة.

لقد تطورت منهجيتنا منذ التقارير اليومية البسيطة عام 2011 إلى قواعد بيانات تستوفي المعايير القانونية الدولية.

واليوم، تُعتمد بياناتنا من قبل مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ولجنة التحقيق الدولية، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM)، بالإضافة إلى المحاكم الأوروبية التي تنظر في العديد من القضايا.

ثقل الشهادة

لا يمكن قياس العبء النفسي الذي ينطوي عليه هذا العمل، فقد عانى أعضاء الفريق من إرهاق نفسي نتيجة التعرض اليومي لصور الضحايا والمعتقلين، والاستماع المتواصل لشهادات الناجين من التعذيب.

ومع ذلك، واصلنا العمل لأننا أدركنا حقيقة جوهرية: في غياب العدالة الفورية، يصبح التوثيق فعلاً من أفعال المقاومة.

كل اسم مُسجَّل، وكل شهادة محفوظة، وكل انتهاك موثق هو إنكار لحق الاستبداد في قول الكلمة الأخيرة.

وقد أدرك النظام البائد هذه الحقيقة، فشنّ هجمات إلكترونية على خوادمنا، وأسس منظمة وهمية تحمل اسمنا بهدف تضليل الرأي العام، وأطلق حملات تضليل منظمة، كما قامت أطراف النزاع الأخرى، وفي مقدمتهم روسيا، بأفعال مماثلة بدرجات متفاوتة، ومع ذلك، فإن الحقيقة، الموثقة بعناية والمحافظة عليها بدقة، تبقى صامدة أمام كل محاولات القمع.

العدالة الانتقالية من النظرية إلى التطبيق

مع ترسيخ وجودنا في دمشق، تقف سوريا اليوم على مفترق طرق حاسم.

فقد شكّل سقوط النظام البائد في كانون الأول 2024 فرصة تاريخية لا تُعوّض، وتقوم رؤيتنا للعدالة الانتقالية على خمس ركائز أساسية:

أولًا، المساءلة دون مساومة: لا بد من محاسبة الصفين الأول والثاني من بين نحو 16,200 مسؤول موثّقين في قواعد بياناتنا.

فلا يمكن تأسيس سلام دائم في ظل الإفلات من العقاب، ونحن مستعدون لتقديم أدلتنا لأي مسار قضائي مشروع، سواء كان محليًا أم دوليًا.

ثانيًا، الكشف عن مصير المفقودين: تمثل قضية المختفين قسراً الأزمة الإنسانية الأشد إلحاحاً في سوريا.

ومذكرتنا الأخيرة مع اللجنة الدولية المعنية بالمفقودين تشكل خطوة أولى في هذا المسار الطويل.

ثالثًا، إصلاح مؤسسي يتجاوز التغيير الشكلي: لا بد من إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، تحت إشراف مدني واضح، وفي إطار قانوني يمنع تكرار الانتهاكات.

رابعًا، ضمانات دستورية لحقوق الضحايا: ينبغي أن يعترف الدستور السوري الجديد بالضحايا وحقوقهم في معرفة الحقيقة، والحصول على التعويض، وترسيخ مبادئ العدالة الانتقالية.

فالأمر لا يتعلق بالانتقام، بل بمنع تكرار المأساة.

خامسًا، حفظ الذاكرة وتكريمها: يجب أن تُواجه المحاولات الممنهجة لطمس الجرائم، سواء عبر التضليل أو تدمير الأدلة، بحفظ الحقيقة بمنهجية لا تقل دقة، وتشكّل أرشيفاتنا أداة رئيسية لحماية الذاكرة التاريخية لسوريا.

التطلّع إلى الأمام

إن وجودنا في دمشق يمنحنا القدرة على العمل بشكل مباشر مع الضحايا والناجين الذين لم يُسمح لهم، طوال أربعة عشر عامًا، إلا بالبوح بشهاداتهم همسًا عبر قنوات مشفّرة.

إلى الناجين الذين وثقوا بنا حين كان كشف الحقيقة يعادل المخاطرة بالحياة: شجاعتكم هي التي صنعت هذه اللحظة.

إلى العائلات التي أرسلت صور أحبائها الذين قضوا تحت القصف أو التعذيب، بينما لا يزال الحزن يتدفق في عروقهم: ثقتكم هي ما بنى أرشيفنا.

إلى النشطاء الذين نقلوا الأدلة من المناطق المحاصرة تحت القصف: تفانيكم هو ما جعل التوثيق ممكنًا.

وإلى زملائي وزميلاتي إن جهودكم هي الأساس الحقيقي لكل نجاح.

الطريق ما زال طويلًا أمامنا.

إن بناء سوريا جديدة يتطلب وقتًا وجهدًا من جميع أبنائها، ولأول مرة منذ أربعة عشر عامًا، نسير في هذا الطريق، لا كمنفيين، بل كسوريين في وطنهم.

آخر الأخبار
صياغة جديدة لقانون جديد للخدمة المدنية ..  خطوة مهمة  لإصلاح وظيفي جذري أكثر شفافية "الشباب السوري ومستقبل العمل".. حوار تفاعلي في جامعة اللاذقية مناقشات الجهاز المركزي مع البنك الدولي.. اعتماد أدوات التدقيق الرقمي وتقييم SAI-PMF هكذا تُدار الامتحانات.. تصحيح موحّد.. وعدالة مضمونة حلاق لـ "الثورة": سلالم التصحيح ضمانة للعدالة التعليمية وجودة التقييم "أطباء بلا حدود" تبحث الواقع الصحي في درعا نهضة جديدة..إقبال على مقاسم صناعية بالشيخ نجار وزير الخارجية اللبناني: رفع العقوبات عن سوريا يساعدها بتسريع الإعمار ترميم قلعة حلب وحفظ تاريخها العريق محافظ درعا يتفقد امتحانات المعهد الفندقي "الطوارئ والكوارث": أكثر من 1500 حريق و50 فريق إطفاء على خطوط المواجهة دول الخليج تتوحد في تقديم المساعدة والاستثمار في سوريا واشنطن تتحدث عن السلام.. هل يلتزم الاحتلال الإسرائيلي بوقف اعتداءاته؟ سوريا تطلق إصلاحات السوق لجذب المزيد من الاستثمارات وتحفيز إعادة الإعمار نقابة المهندسين الأردنيين: إعمار سوريا استحقاق يتطلب تضافر الجهود عربياً ودولياً بين الحصار والانفراج.. هل تفتح المصارف السورية أبواب العالم؟ ترامب يفكك برنامج العقوبات من أجل سوريا مستقرة قرار رفع العقوبات.. خبراء لـ"الثورة": يعيد تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي في المنطقة وزير المالية: رفع العقوبات انطلاقة اقتصادية واستثمارية جديدة سوريا تصنع المستقبل.. نظام استثماري جديد يعيد رسم خريطة الصناعة ويطلق العنان لرؤوس الأموال