الموهبة تعني الطريق إلى الابتكار، والاختراع، بل هي ثروة في حد ذاتها تثري المجتمعات، والبلدان التي توجد فيها، فكل المجالات تحتاج إلى الدعم منها لتحقق تطورها، ولتتقدم في مسارها. ومن المواهب ما تعلن عن نفسها بنفسها، وتكون من الجرأة بمكان لتقف بمفردها ولو لم يدعمها أحد.. ومنها ما تظل خجولة مختبئة تنتظر مَنْ يكتشفها ليظهرها إلى العلن خارج صندوق التردد، أو الخوف والخجل.. ومنها ما يضيع، ويُطمس من دون أن ينتبه إليه أحد.
والمجتمعات عموماً لا تعدم موهوبيها الذين يبرزون إلى ساحات العلم، والفن، والأدب، والفكر.. والمجالات التي ينتمون إليها تستقطبهم لتصنع منهم نجوماً، وهي تعزز مكانتها من خلال الاستفادة مما يقدمونه لها.
قديماً كانت الدول أكثر ما تبحث عنه وتنقب هو الموارد الطبيعية، وآثار الحضارات التي عاشت على أرضها، وكل ما يمكن أن يشكل لها ثروة قومية. وها هي الآن بعد أن دخل العالم عصر العلم، والاختراع باتت لا تبحث فقط عن تلك الموارد بل عن المواهب، وأصحاب الإمكانات الفكرية العالية، باعتبارها هي الأخرى ثروة بشرية قومية ثمينة تفوق كل الثروات الأخرى، فهي التي تأتي بعصور التقدم، والازدهار في مسيرة الحضارة.
ومنذ أن سادت العولمة، وتمازجت الشعوب بين بعضها بعضاً، تنبهت دول العالم كل إلى ما يملكه غيرها من المتفوقين، وأصحاب المواهب، ليخلقوا فيما بينهم بسببها صراعاً جديداً هو في حقيقته قديم غافٍ.. وها هي نوافذ شبكة المعلومات تمهد كل الطرقات للالتقاء بأصحاب الكفاءات، والعثور عليهم حتى ولو كانوا في أبعد بقعة من الأرض.. والفرز قائم باستمرار كما لو أنه التنقيب عن الذهب في التمييز بين الموهوبين، وأشباههم، ومَنْ يدَّعون الموهبة وهم لا يملكون قطراتٍ منها.
ولماذا لا يقوم الصراع بين الدول، أو بين الشركات الكبرى للعثور على هذه الثروات البشرية، واجتذابها نحوها لتقود نحو الازدهار، وكأنه الصراع لأجل البقاء، وليس التنافس للارتقاء؟
تنافس شرس أصبح يطفو على سطح تضارب المصالح بين عمالقة الشركات بسبب موجات الهجرات التي ترحب بها القارة العجوز إلى جانب غيرها من القارات، فتقدم لها كل التسهيلات لاحتضانها، ومن ثم لتعثر من بين هؤلاء القادمين الجدد على مواهب مختلفة تضمها إلى نسيجها البنائي كما لو أنه التنوع البيولوجي الذي يفرز مزيداً من المواهب الهجينة ذات الخصائص الأكثر تميزاً.. ولابأس فيما بعد من استبعاد الهجائن غير الخصبة التي لا تعود بالمردود التطوري المتوقع منها، وإسقاطها من حقيبة السلالات الناجحة الجديدة.
كم وكم من المبدعين، والعلماء العرب ممن هاجروا استفادت منهم الدول التي قصدوها، فلمعت أسماؤهم بإنجازاتهم، ولم يعد علينا من ذلك إلا بريق باهت من التعريف بأصول الانتماء، بينما بلادنا العربية أحوج ما تكون لهؤلاء الأبناء ليدعموا مجتمعاتهم الأم بالعلم، والمعرفة، وبما يؤدي إلى التنمية، والازدهار.. عقول مهاجرة لم تتعبها الغربة رغم الحنين لمكانها الأول لأن ما لها من امتيازات حصلت عليها كانت كافية لأن تبقى حيث هي في بلدان تستقطب إليها كل من يطأ أرضها، وهي تحصد فوزاً تلو آخر، بينما تضع خططها، وتعِدّ استراتيجياتها لإبقاء هؤلاء المهاجرين لديها.
ومادامت العقول المبدعة هي التي تتحكم في مصائر العلم، والسياسات، وهي التي تقود العالم بأسره نحو حقبات جديدة في مسار الحضارة التصاعدي، والقوة، وتأتي ببراءات الاختراع التي تدعم، وتثمر، فلم يكن غريباً أن يصبح التنافس صراعاً، والبحث عن الموهبة حلاً لأزمات، أو خلاصاً من عقبات.