حلّقت أسعار البرغل بشكلٍ مفاجئ – خلال الأشهر الماضية – وغير محسوب ولا متوقّع، و الأكلة الشعبية الواسعة الانتشار عند السوريين، ولاسيما في المجتمعات الريفية، وقد وصلت به الحالة الشعبية إلى حدود الملل، لدرجة دخوله في قاموس الأمثال الشعبية عند مقارنته بالأرز، فكانوا يقولون ( العز للرز والبرغل شنق حالو ) كناية عن أن الأرز يسود في المجتمعات المدنية الحضرية أكثر بكثير من البرغل السائد بقوة في الأرياف، أما اليوم فقد راح البرغل يقفز بعيداً بأسعاره غير آبهٍ لا بعزّ الرز ولا بتلك المشنقة المزعومة.
وعلى الأرجح فإن المقارنة بين أسعار هاتين المادتين كان لها الدور الحاسم في إطلاق ذلك المثل الشعبي، باعتبار أن الأرز يتفوق بالسعر كثيراً على البرغل، وهذه كانت حالة طبيعية لأن الأرز يبقى مادة مستوردة لها تكاليفها الباهظة، في حين أن البرغل يُنتج محلياً بفوائض كبيرة وتكاليف قليلة، فبقيت أسعاره بالحدود المعقولة، ولكن بعد هذه الحرب المجنونة، وسرقة ثرواتنا وحقول قمحنا تغيّرت المعادلة كلياً، وصار القمح – الذي كنا ننتج كفايتنا منه بل وفوائض تزيد عن حجم الاستهلاك المحلي – أحد أهم المستوردات، فازدادت تكاليفه، وبالتالي ازدادت تكاليف البرغل، فهو عملياً ليس إلاّ عبارة عن قمح مسلوق ومجروش، ومن هنا انتهز فرصته ليهرب بعيداً عن رصد المشنقة.
والحقيقة يبدو أنه كان ينوي الهروب بعيداً جداً ليحلّق بأسعار عالية يردّ من خلالها الصاع صاعين أمام كل من ينوي المساس به، هنا تدخّلت الدولة بقوة وكبحت جماح أسعاره عبر ( السورية للتجارة ) حيث طرحت كميات كبيرة من البرغل بصالاتها ومراكزها المنتشرة في مختلف المحافظات لتُجبره على التراجع خائباً.
هذا التحدي الكبير الذي نجحت السورية للتجارة بأدائه وبتحقيق النتائج المرجوّة منه، حتى وإن كانت تكاليف البرغل قد فرضت نفسها بقوة، غير أن التراجع الذي تمّ فرضه كان محرزاً .. لا بل ومدهشاً أيضاً.
القوة التي أبرزتها مكابح السورية للتجارة في تراجع أسعار البرغل وانكفائه، مرّت مرور الكرام على أغلب الناس، وهم في واقع الأمر معذورون لأنهم منشغلون بأوضاعهم الصعبة وتدبير شؤون حياتهم، ولكن هذه الحالة يجب أن لا تمرّ هكذا ببساطة وسهولة دون التركيز على أهميتها وأبعادها واستخدامها كمؤشّر للطاقات الحقيقية الكامنة في السورية للتجارة والتي يمكن تفجيرها لاستثمارها كترجمة دقيقة بلا توقف لطلاسم التدخّل الإيجابي، علّنا بعد ذلك نتفهّم أكثر معاني هذا التدخّل الذي لا يزال محطّ انتقادٍ شديد عند الكثيرين، ولكن ما تمكّنت منه السورية للتجارة في مسألة التعاطي مع البرغل يدفع بها إلى الواجهة بقوة كمتدخّل إيجابي بامتياز، وعلينا أن نكون منصفين وندعم هذا التوجّه، بعد تلك التجربة البرغليّة الناجحة، لاسيما وأن البرغل – رغم كل المشانق التي تطوقه – هو من أهم الأغذية لاحتوائه على الكثير من العناصر الهامة لجسم الإنسان، ففيه الألياف والفيتامينات الضرورية والمعادن المقوية كالزنك والمنغنيز والفوسفور والمغنيزيوم .. والأهم من ذلك الحديد، فليس عبثاً ما يصفه الكثيرون بأنه ( مسمار الرّكب ) ومن هنا نستشفُّ ميزة أخرى لأهمية ما فعلته ( السورية للتجارة ) بأن حافظت لنا على مسامير الرّكب، ولاشك بأنها قادرة على أن تفعل الكثير عندما نقف معها ونؤازرها، وعندما تفتح لها الدولة سقف المرونة والانتشار، وتعطيها صلاحية زيادة عدد صالاتها ومراكزها في كل مكانٍ مناسب، وتوظيف الكوادر التي تحتاجها دون قيود، لتكون متدخلة إيجابياً ليس في السوق فقط بل وفي مكافحة البطالة وتحسين أوضاع الناس.
السورية للتجارة فرصة حقيقية اقتصادية وخدمية واجتماعية لو أننا فقط نُحسن استثمارها كما يجب أن يكون.