الثورة- نوار حيدر
لطالما نطق الشعر بلسان الحال، فكيف إذا كان الحال يدمي القلوب، وسط سطوة النهاية التي تلتحف تلابيب الحياة، ودمار يستنزف الأرواح ويبعثر الأحلام، لتقف إرادة البقاء أمام الخوف الذي تسربل إلى قلوب أضناها الوقوف أمام مناياها، يعودون إلى الحياة ليعيشوا مآسيها بالفقد والحرمان الذي خلفه زلزال سورية.
أمام هذه الفاجعة كان الشعر حاضراً ليعبر كغيره من أشكال الحضور الثقافي عن حجمها، ويبعث الأمل في نفوس تلتمس من يطفئ جمرها بالقول والفعل، فكان لنا وقفة مع شعراء حملوا على عاتقهم آلام أشقائهم السوريين، وانبرت أقلامهم لترسم واقعهم الأليم.
حتمية النهوض
رأى الشاعر والناقد رضوان هلال فلاحة أن الشعر يأخذ دوره، ليس بوصفه حاملاً للشكل الفنيِّ واللغويِّ الذي يُقدمه كفنٍّ أدبي رفيع، كمفهوم إرساليٍّ فحسب، بل بجوهر تَمثُّله للقيميّة وما يُمثِّله من ضمير جمعيٍّ مُكاشف وناهض بالمجتمع، ولا يتأتّى هذا الدور إلا بمصداق وصدقيّة محموله الثقافيّ السلوكيِّ الواقف باستقراء واستشراف المُستقبل بمُعطيات الماضي والراهن، فيتعدى بذلك ذاتيّة الخاص المسلوب من نزعة «الأنا» إلى الخاصِّ المبدع المتضمن للعام والمنصهر به من نزعة «النحن» في التزامه القيميِّ بقضايا المجتمع والوطن والإنسانيّة، فللكلمة أدباً وثقافة تأثير بالغ يستطيع من خلالها الأدباء والمثقفون، والشعراء على وجه الخصوص، استنهاضَ إرادة الحياة وشحذ الهمم لتقوم بمسؤولياتها الوطنيّة في الأزمات والمحن، والتي لا تتوقف عند الوصف الانفعالي، بل تتّجه بذهنيّة الوعيِّ المُتّقد بوجدانها الجمعيّ إلى المُساهمة في تذليل العقبات، وإيصال رسالتنا إلى المجتمع الدوليّ والإنسانيّة جمعاء، والتي من شأنها إيقاظ الضمير الإنساني تجاه بلدنا الذي كابد اثني عشر عاماً من الحرب جاء معها الزلزال المُدمّر ليزيد من نتائج الحرب القاسيّة والمُثقلة بوجعها على بلدنا.
إنّ إرثنا الثقافي الحصن والمرجعيّة القيميّة، والمرتكز الإنمائي لديمومة الإنتاج الفكري والإبداعي في مواجهة أحلك التحديات التي مرّت في تاريخ سورية العريق، فالأنموذج كان حاضراً في تُراثنا الفكريّ والأدبي القديم والمعاصر الحافل بروّاد الفكر والأدب والشعر ودورهم الرياديّ في الإضطلاع بقضايا الوطن والإنسان، وجدوى أقلامهم لجهة التصدي والمجابهة والتنوير والبناء، والشواهد كثيرة على ذلك كالشاعر سليمان العيسى، والشاعر نزار قباني.. ومنهم من دفع حياته في سبيل ذلك كالشاعر المناضل والمقاوم كمال خير بيك.. وأمثولات عديدة غيرهم كان لهم الدور البارز في المحن والأزمات التي حاقت ببلادنا.. ومازال لمصنفاتهم أثرها الحيَّ الذي يُحاكي عضويّاً ما نمرُّ به في حاضرنا من أزمات ومُلِمَّات، مِمَّا يُشكّل دافعاً ورافعاً ورافداً لكُتّابنا وأدبائنا للإحتذاء بهم، وإثبات بصمتهم التي لم تألوا جُهداً في الانبراء الماتح من قلب المعاناة في عزيمة لم تُقوضها تداعيات الحرب طيلة اثني عشر عاماً والكارثة التي حلّت مع الزلزال المُدمّر، وستقف الإنسانيّة جمعاء أمام مرويّاتها الأدبية والشعرية، وإنجازاتها الثقافية والفكريّة توثيقاً ورؤى تنهل منها ثَرائها الإنساني الوطني المبدع بقيم الحق والخير والجمال على درب الآلام إلى حتميّة النهوض السوري.
ومن شفيف روحه كتب الشاعر فلاحة:
ارفعوا الرُّكام حجراً حجراً بأرواحِ ساكنيها
فها هُنا حلمٌ ما زالَ ينمو..
وهناك حنجرةٌ تغصُّ بِبُحّة الأمسِ
سيحلو لها الغناء..
وبينهما قلمٌ للطفولة
يخطُّ لنا رأسَ الهلالِ
ليكتملَ بدراً في ليالي الحصاد
ارفعوا الرُّكام مع الغناءِ
فثمّةَ وقتٌ طويلٌ لِمَن سيُعلنُ المَزادَ على الركام والدماء…
سورية ناهضة.
كرنفالات الألم
ذهبت الشاعرة والناقدة راوية زاهر إلى القول:
لطالما كان أدب الأوبئة والكوارث شحيحاً في أدبنا العربي، فلم نسمع يوماً أسوة بالأدب العالمي رواية عن الأمراض مثل:(الحب في زمن الكوليرا لماركيز، والطاعون لألبير كامو)..
حتى ملامح الوباء الكورونا أو الحرائق والزلالزل، فما كانت سوى مقتطفات قصيرة تعبر عن حالة انفعالية طارئة.
ولكننا اليوم نرى حديث الصور وحكايا الحزن والألم تستنفر شعور المبدعين، فنراهم يعبرون عما يجيش في صدورهم من حزن وحسرة وحتى حب تجاه وجوه خرجت بعد ساعات من الموت المؤجل، منها باسم الثغر ومنها يحمل أحزان قارة بأكملها.
وأجمل الشعر الذي استوقفني، كان لشاعر عربي أوجعه حالة السوري، مستصرخاً العرب لمساندة السوري الذي مابخلت عليه الدنيا بنوع من أنواع القهر والحرمان:
الشام تبكي من الأوجاع والكمد / حربٌ وقتلٌ وتشريدٌ بلاعدد
وزادها اليوم زلزالٌ على مضضٍ/ والعربُ لاصولة بالعود والمدد
قوموا ارحموا أهلنا بالشام ياعرباً/ ودعكم اليوم من غلّ ومن حسد
لن يرحم الله أمواتاً ومارحموا / أهلاً لهم في بقاع الأرض والبلد.
وليس آخرها أيضاً ماقاله شاعر آخر على مواقع التواصل الاجتماعي توثيقاً لحالة ألم جماعية ينفطر الفؤاد لها:
وأوجعُ ما يُقالُ نجا فلانٌ ومن معه قضوا تحت الركامِ
وأمٌّ خلفها أبقت وليداً و بنتاً لم تصل سن الفطام.
فالشعر حجز لنفسه مقعداً على مواقع التواصل الاجتماعي ليكون وسيلة التعبير، والتي تكاد تكون يتيمة عن الحالة الشعورية للعاطفة المتأججة في حالات الكوارث، من قبيل مالمسناه من أدب الزلزال مؤخراً.
وقد دلوت بدلوي في كتابة بعض المقطعات، كتعبير حي ومباشر عما تأجج في نفسي، كحال أي سوري أوقف الحزن دقات قلبه، وتركه مشدوها أمام هول المشاهد وبلايا الفاجعة.
ومن مشهد عارم بالإنسانية والإيثار لعجوز ثمانيني لجأ إلى أحد المشافي، وقال جئتكم فخذوا ماشئتم من جسدي قرباناً للضحايا..استشفيت هذه الومضة الشعرية:
جئت إليكِ قرباناً،
فقطّعي ماشئت وأوصلي في جسدي
عجوز ماعزت عليكِ حياةٌ
نادى بأعلى الصوت
قربان أنا لك يابلدي.