الثورة – حسين روماني:
لم يكن رحيله مجرد فقدان لكاتب مخضرم، بل اشتياق لصوت سرديّ أصيل، حمل هموم وطنه في نصوصه وشخصيّاته، وترك إرثًا غنيّاً في الدراما السوريّة، لا تزال أعماله تروي لنا قصص الإنسان السوري بكل تناقضاته وآماله.
نعيش هذه الأيام ذكرى وفاة الكاتب السوري المبدع فؤاد حميرة، الذي رحل في صيف ساخن، مغترباً عن بلاده في مصر، بعد سنوات من العزلة والوحدة.
يُعتبرحميرة واحداً من أهم كتّاب الدراما السورية الذين أحدثوا نقلة نوعيّة في كتابة المسلسل التلفزيوني، ليس فقط عبر مواضيع أعماله، بل أيضاً من خلال طريقة تعامله مع بناء الشخصيّات والحكاية الدراميّة.
فقد ترك بصمة واضحة في المشهد الفنّي، وأثرى الدراما السّورية بنصوص تحمل عمقاً إنسانيّاً وتراكيب سرديّة مميزة.
– كيف صنع حميرة شخصياته؟
التميّز الأول لحميرة كان في بناء شخصيّات ذات أبعاد متعدّدة، لا تختزل، في صفات سطحيّة أو نمطيّة.
كان يكتب شخصيّات “حقيقية” تنبض بالحياة، محاطة بصراعات داخلية معقّدة تعكس تناقضات الإنسان السّوري في الواقع، بين الضغوط الاجتماعيّة والسياسيّة والأحلام الشخصيّة.
في مسلسله الأشهر “غزلان في غابة الذئاب”، قدّم شخصيّات لا يمكن تصنيفها بسهولة إلى”خير” و”شر”، بل صوّرها بأبعاد إنسانية تجعل المشاهد يتعاطف معها أو ينتقدها، لكنها تبقى في النهاية شخصيّات مؤثرة وحقيقية.
هذا التنوع في طبقات الشخصية وسبر أغوارها النفسيّة جعل المسلسل علامة فارقة، لا سيما في سياق عرض السلطة والفساد من خلال عدسة دراميّة معقّدة.
الحكاية والعقد الدرامي
لم يكتب حميرة حكاية خطيّة تقليديّة، بل اعتمد على بناء درامي معقد، يتشابك فيه الحدث مع العقد، وتبرز فيه التحوّلات النفسيّة والاجتماعيّة للشخصيّات، فكل حدث في نصّه كان له وزن معنوي يؤثر على مسار القصّة، ويعيد تشكيل العلاقات بين الشخصيّات.
في “شتاء ساخن”، على سبيل المثال، لا يُقدم الحدث فقط كخلفية، بل يتفاعل مع الشخصية بشكل مستمر، حيث تتغير المواقف وتتطور الصراعات الداخلية مع تطور الأوضاع السياسية والاجتماعية في المجتمع السوري.
أثر لا يمحى
بفضل هذه المقاربة، أصبح للدراما السورية صوت أكثر عمقاً وصدقاً، إذ انتقلت من طرح القصص البسيطة أو الملحميّة إلى سرد معقد يعكس الواقع بكل تناقضاته.
ترك حميرة أثراً واضحاً في جيل من الكتّاب والمخرجين الذين بدأوا يقدّرون أهميّة تعقيد الشخصيّة والعمق الدرامي، كما ساعد في “الحصرم الشامي” على إحياء البيئة الشامية بكل تفاصيلها، وعرض تاريخها الاجتماعي والسياسي من منظور إنساني حساس، ما أثرى المادة الدراميّة وأدخلها أبعاداً جديدة.
نصوص معتقلة وهَيبة مغيّبة
حين أعلنت شركة “الصبّاح” تعاقدها مع فؤاد حميرة لكتابة جزء من مسلسل “الهيبة”، بدا وكأن صوت الدراما العميقة سيعود أخيراً إلى الشاشة.
كتب حميرة نصاً أراد له أن ينتقل من العنف المجّاني إلى دراما تطرح أسئلة، عن التّوبة والسّلطة والعدالة، لكن النص رُفض بهدوء، وكُبّل بشروط السوق، فانكفأ الكاتب، وعاد الصمت إلى المشهد.
لم يكن “الهيبة” التجربة الوحيدة التي كُتم فيها صوت فؤاد، فقد كتب أيضاً لنفس الشركة مسلسل “الزبّال”، حكاية عن شخصية دمشقيّة حقيقية حكمت الناس بدهاء الفقراء لا سلطة السيف، لكن النص بقي سجين الأدراج، لما فيه من جرأة وتعرية للسلطة لم يناسب مزاج الإنتاج ولا شروط الرقابة.
وهكذا، ظلّت نصوص فؤاد كأبطاله: تعرف الحقيقة، ولا يُسمح لها أن تقولها.
كسر العظم خارج النصفي عام 2022
عاد اسم فؤاد حميرة إلى الواجهة بعد الجدل الكبير حول مسلسل “كسر عضم”، الذي عرض في رمضان وحقق ضجة واسعة، لكن حميرة لم يكن جزءاً من هذه العودة كما أراد، فالمسلسل، بحسب تصريح سابق له، استند إلى نص كان قد كتبه منذ عام 2011 تحت عنوان “وصايا المطر”، ثم جرى تعديله وتغييره دون اسمه أو موافقته، ما دفعه إلى الدخول في مواجهة علنية مع شركة “كلاكيت” المنتجة للعمل.
ورغم محاولاته لإثبات أحقيّته، لم تُفتح له أبواب العدالة أو الإنصاف، فخرج مجدداً من دائرة الضّوء، محمّلاً بخيّبة لا تشبه إلا شخصيّاته، أولئك الذين يعرفون الحقيقة، لكنهم يظلّون عاجزين عن قولها وسط صخب السّوق وتواطؤ المؤسّسات، لكن الجمهور والذي له الكلمة الأخيرة كان يتداول خطوط العمل وشخصيّاته وينسبها إلى حميرة، كيف لا وهذا أسلوبه الذي نحته في ذاكرة المشاهد طوال تلك السنين.
كلمة حق
فؤاد حميرة لم يكن مجرد كاتب نصوص، بل كان صانع شخصيات وحكايات تأبى السطحيّة، تحمّل صدق الواقع ونبض الإنسانيّة.
رحيله يترك فراغاً في الدراما السورية، لكنه في الوقت ذاته يترك إرثاً مليئاً بالحكايات والشخصيّات التي ستظل حيّة في ذاكرة المشاهدين، ومرجعاً لكل من يبحث عن دراما سوريّة كانت أم عربيّة متجدّدة وصادقة.