الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
في لحظةٍ كان الضّوء يستعدُّ لينشر شاله على البيوت والمنازل في المدن والقرى التي تنام بهدوء وطمأنينة …كانت العصافير تهمّ بكتابة أناشيدها الأولى ..والأشجار الباسقة تغازل قطرات الندى بشغف…
في لحظةٍ فارقة تغيّرت معالم المشهد، المشهد الذي ألِفَ الوجوه والحارات والشوارع والأزقة والبيوت الدافئة، وحكايات البساطة والطيبة…تغيّر المشهد، تسمّر الزمن….
هو الزلزال …الكارثة الكابوس، شوارع تغيرت معالمها، أبنية ترنحت تحت هزات لم ترحم كبيراً أو صغيراً، طفلاً أو يافعاً…
في اللحظة نفسها، لا وقت للبكاء أو النحيب، فكان التحرك الرسميّ والشعبيّ لإنقاذ من علق تحت الأنقاض وتقديم المساعدة الفورية للأسر المنكوبة، ففي الأزمات تظهر معادن الرجال والشعوب، وكان السباق مع الزمن، أطقم الإنقاذ من رجال الدفاع المدني واصلت الليل بالنهار، تحدّت الصعاب، في ظروف ٍ قاسية من برودة ٍ وأمطار متواصة ؟ الظروف الجوية السائدة وحجم الأنقاض لم يمنعا الأيدي الرحيمة من انتشال طفل ٍهنا ورجل طاعن ٍ في السنّ هناك … لم يقف ضعف الإمكانات أمام نُبل الهدف وإنسانية المسعى، إنها اللوحة السورية الأكثر نقاء وغيريّة، تشابكت الأيدي الطاهرة، تعانقت الأكتاف بين كل الرجال أصحاب النّخوة والضمير من رجال الإنقاذ ولجان الإغاثة وبمؤازرة من بواسل الجيش العربي السوري، رجال العزة والكرامة، وقوى الأمن الداخلي.
أعين الوطن الساهرة
كل العيون، القلوب المحبّة، ترنو إلى المناطق التي ضربها الزلزال المدمّر وهي قطعة من القلب والروح، كل القلوب أدماها المصاب ، فالجرح واحد، الحزن واحد، كان التحرك آنياً، فجاءت العزائم على قدر أهل العزم، شباب ٌ متطوعون من كل الأعمار، أسرٌ فتحت بيوتها لاستقبال من تهجّر، تأمين الحليب للاطفال، تأمين الأغطية والأدوية للمحتاجين، التبرع بالدم للمصابين ، تجهيز مركز الإيواء في المدارس والصالات الرياضية والمراكز الشبابية والمدن الجامعية، في الجوامع والكنائس …الكل يقوم بدوره بمحبة وتفان …وسائل الإعلام الوطنية والخاصة، وسائل التواصل الاجتماعي استنفرت لإيصال الصوت والكلمة والاستغاثة بشفافية ومصداقية وتوضيح الصورة الحقيقية لما يجري على الأرض بعيداً عن التهويل والتضخيم وبث الطاقة السلبية التي لجأت إليه بعض الصفحات لتشويه الدور الوطني والإنساني للدولة والشعب والقيادة.
متبرعون من كل المحافظات، الجالية السورية، الأشقاء من الإمارات والجزائر وليبيا والعراق ولبنان وتونس ومصر و…. والأصدقاء في روسيا وإيران ..اندفع الجميع لتقديم ما يمكن تقديمه لبلسمة الجراح، فكان التعاون والتكاتف والتعاضد والإيثار …
ماذا تكتب في هذا المقام ؟ ماذا تكتب عن الشعب السوري الذي دافع عن بلده وحماه ؟ ضحّى بالدم والروح، قاتل الإرهاب والفكر الظلاميّ التكفيري، بإيمانه المطلق بوحدة التراب المقدّس، قاوم وصمد وانتصر …
ماذا تكتب عن أسر ٍ وأفراد تبرّعوا بكل ما لديهم لمؤازرة أخوتهم المتضررين من الزلزال ؟
ماذا تكتب عن أطفال تبرعوا بمصروفهم اليومي، بألعابهم … عن عجوز ٍتبرّعت براتبها التقاعدي، عن الفنانين والأدباء الذين آلمهم المصاب وهز وجدانهم ومشاعرهم …؟
لن تجد الكلمات التي تعبر عن عظمة هذا الشعب، الشعب الصامد الصابر الذي يرى في سورية كل الخير والمحبة والسلام.
لقد أثبت السوريون اليوم أنّهم يد واحدة، قلب واحد، نبض واحد، جسد واحد، يكتبون أسفار المجد بسواعد وعقول أبنائهم المخلصين الغيارى، أبناء الشمس، أبناء حضارة تمتد آلاف السنين.
طوال تاريخهم الطويل خلّد السوريون حضارتهم وانتصاراتهم بوحدتهم وصمودهم وإيمانهم بهذه الأرض الطيبة والتي تعطي بلا حدود.
لم تتوقف لحظة واحدة أعمال الإنقاذ والإغاثة، فكانت قوافل الخير، قوافل الدفء والحنان، من القرى والمدن والأرياف، من كل المحافظات تتجه إلى المحافظات المنكوبة في حلب وحماة وإدلب واللاذقية للتخفيف عن أهلنا المتضررين وتقديم كل ما يلزم من إقامة وطعام ودواء ….
لقد عملت الدولة لإيصال المواد الإغاثية لكل المناطق المنكوبة، حتى تلك التي خارج سيطرتها رغم عرقلة المجموعات الإرهابية المسلّحة، إيماناً منها بدورها ومسؤوليتها الوطنية والإنسانية.
هذا التلاحم الأسطوري بين أبناء الشعب الواحد من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، ليس غريباً أو طارئاً أو جديداً؟
فخلال الحرب الإرهابية التي فُرضت على سورية، الحرب الكونية، التي استهدفت البشر والحجر والشجر، وأراد من أشعلها ضرب المنظومة الحضارية والتاريخية والأخلاقية لسورية الوطن والإنسان، فكانت ملحمة البطولة والانتصار، انتقل الآلاف من السوريين من المناطق التي طالها الإرهاب إلى المدن الآمنة ليجدوا بيوتاً مفتوحة لهم، تقاسموا الرغيف والماء والدواء، وشكّلوا ملحمة الصمود الأسطوري الذي أذهل العالم.
هي أحداث فاصلة في حياة السوريين، جعلتهم أكثر صبراً، أكثر يقظة وقوة وعنفواناً ؟
أحداث يمكن أن تغيّر التاريخ وتعيد رسم ملامح المستقبل القادم.
لقد قاومت سورية كل مشاريع الهيمنة والاستعمار، وكتبت بحروفٍ من نور نصرها المؤزر بتضحيات أبنائها وصمود شعبها نعم هذا هو حال السوريين في حياتهم، في فرحهم ؟ في حزنهم، في دفاعهم عن أرضهم ووطنهم، في صبرهم وكفاحهم لتأمين لقمة العيش بعزّة وكرامة.
نعم …السوريون اليوم كانوا المثل والأمثولة، في التضحية والإيثار، في التعاون والتعاضد، في النخوة والشهامة.
لأرواح من قضوا الرحمة والسلام، للجرحى والمصابين الشفاء العاجل، والعودة الميمونة لمن ترك بيته، ستظل سورية بعينيها الخضراوين النبض الواحد الذي يختلج قلوبنا وأفئدتنا، ومعاً في مسيرة البناء والإعمار وبين أيدينا كلّ الدروب إلى المجد العظيم.
العدد 1133 – 21-2-2023