هفاف ميهوب:
في يوم الشعر العالمي، اليوم الذي تحتفي فيه الفصول بربيعها، والزهرة بعبيرها.. الأمومة بعيدها، والقصيدة بجديدها.. في هذا اليوم، أجمل وأرقى ما يمكن قوله، قول الشاعر والتشكيلي «أمين غانم»:
«أرقى القصائد تلك التي أنتظر منها ما أجهله في نفسي، وأنتظر وجوداً دافقاً.. أشعر أن القصائد طيور سابحة في تشكيلٍ زمنيٍّ مذهل»..
إنها صمته الناطق بالدهشة.. الامتداد الذي هو عليه.. الذهولُ الذي لاشيء بعده، والجمال الذي تكتشفه الأعماق الغامضة، فـ «الغموض هو أغصان القصيدة»، و هو «ما يجذب الشاعر، بدافعٍ من حساسيةٍ مختلفة، وشعور غامض يتلقَّاه فيفيضُ بخصوص، وبمسافةِ قطيعة وفارقة بينه وبين المتلقي، فتبدو الصور الشعرية غامضة، وبكلماتٍ ذات مدلولات جديدة، بعد انهيار معانيها السابقة، من خلال تلاقحٍ جديد يُلبسها مدلولات جديدة..»..
هل يمكن القول هنا: إن هذا الغموض هو من جعله صاحب رؤى خيالية متحركة، ترفض أن تُؤطّر صورها بالشكل والإيقاع؟..
إنه ما تميّز به، وما أوضحه بصمتٍ تدفّقت منه الكلمات.. كلماتُ اللغة الغامضة التي اعتمدها، وقادته إلى خيالٍ تواجد في قصيدته:
«إن خيال القصيدة، موجود في العلاقة الجدلية بين صورها، وليس في استمرارِ هذه الصور فحسب، فالخيال يتعلَّم حرّيته من قوَّة السيرورة، ومن عزلته الخاصة، لذلك هو لا يريد أن يُعتقل في ثبات، فيخترع الصور المتجدّدة اﻹلهامية، ولها القدرة الكامنة على إيقاظ الوعي الذاتي للشاعر، وقوَّته كشاعرٍ تكمن في أن يمضي نحو الخيال الدائم»..
لا شكّ أن رأيه هذا، هو ما جعل الصورة الشعرية لديه «تتخلّى عن المباشرة، وتأخذ الشكل الأكثر حركة وديمومة، بلا زمان أو مكان، أو أفكارٍ مسبقة قائمة في ذهن المتلقي».. هو ما جعلها، تسعى في قصيدة «أصحو فيكِ نفياً» لخلقِ معناها «بأخضرِ اقتحامها»:
/أحتملُ احتباسي راقداً كالوثبِ / والعارضُ فيكِ/ وأرقبُ ما يجعلني ألاقحُ حدثَكِ و انتشاركِ/
وأنتشر/ أوسّعُ السّقطة/..
هكذا هي الصورة الشعرية لدى «غانم»: «انفعالات في صيرورتها، ترتبط بصورٍ أخرى لا يوفِّرها إلا الخيال، والذائقة الراقية بين الشاعر والمتلقي، وهي خلق وليست انعكاساً أو تكراراً أو اختباءً وراء قضايا كبرى، مع انحسار الدهشة والسؤال، فهي لا تُحدُّ بمجموعةٍ كلماتٍ تشير إليها، بل تتدفق عن كلماتها لترقى عنها»..
هكذا هي الصورة الشعرية لدى شاعرٍ، عرّفته قصيدته، وهي إن بدت غامضة لمن لم يتمكّن من الغوصِ في مجهولها، فحتماً ليست كذلك لمن يقرأ تعريفه لها، وقبلها لنفسه:
/أنا الضائع قصداً/ أرى جهات تومئ لي/ وأرى فيها الآتي/ تثبُ اللغة مني/ تراني وتنتحل زماني/ الضياع يفيض ثماره/ والضباب في كلّ اتّجاه، كأن الضباب يتبعني/..
«قصيدتي نسغ يعبرني.. قصيدتي طريقي إليّ.. قصيدتي ثقافتي الحيّة بألوانها. جموح اللون الذي لا يمكن ترويضه»..
لا شيء أكثر من ذلك، احتفاءً بيوم الشعر العالمي.. لا شيء أكثر إلا، نصيحة «غانم» للموهوبين من الشعراء:
«تخلّصوا من الفكر الماضي، واتّجهوا نحو الجديد والمدهش في التغيير.. ابتعدوا عن الاطناب والحشو اللغوي، بالبناء أولاً من أجل الهدم»..